وقف «جان فرانسوا شامبليون» أمام «أكاديمية التسجيل وعلوم الآداب» فى باريس فى يوم 27 سبتمبر «مثل هذا اليوم» عام 1822، ليقرأ رسالته الشهيرة عن اكتشافه الجديد الذى لأحد أهم اكتشافات الحضارة الإنسانية، وهو «كشف غموض اللغة الهيروغليفية التى كان يستخدمها قدماء المصريين»، وحسب روبيرسوليه فى كتابه «علماء بونابرت فى مصر» ترجمة: فاطمة عبدالله محمود «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»: «قال شامبليون فى رسالته:
الهيروغليفية هى كتابة تصويرية، ورمزية وصوتية فى آن واحد، وتعبر أحيانا عن أفكار ما، وأحيانا أخرى عن أصوات» ويعلق «سوليه»: «هكذا كشف الستار عن ثلاثة عشرة قرنا من الظلام الحالك الدامس، فها هنا عالم جديد قد شاهد النور».
أطل هذا الحدث برأسه «يوم 14 سبتمبر 1822»، فيومها حسب «سوليه» فى كتاب آخر له هو «مصر ولع فرنسى» ترجمة: لطيف فرج، «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»: «أمسك بأوراق فى يده، وهبط مسرعا على سلالم المنزل رقم 28 بشارع «مازارين» فى باريس، وجرى نحو «أكاديمية الكتابات المنقوشة والآداب القديمة» حيث يعمل شقيقه «جاك جوزيف»، وحين دخل صاح: «المسألة فى حوزتى»، كان قد تمكن على التو من كشف غموض اللغة الهيروغليفية».
كان عمره وقتها 31 عاما، قضى منها حوالى عقدين فى دراسة اللغات القديمة، ويقول سوليه: «بدأ هذا العبقرى أبحاثه فى السن الذى يلعب فيها آخرون بالطوق، وذلك فى ظل رعاية واهتمام شقيقه الأكبر الذى يقوم بدور كفيله وأستاذه وأبيه وأمه، كانا لا يفترقان إلى حد أن الناس كانوا يتحدثون عن «شامبليون الصغير» و«شامبليون - فيجاك»، وكان الفارق بينهما 12 عاما».
يضيف «سوليه»: «بدأ شامبليون (الصغير) وهو فى سن الثالثة عشرة اهتمامه باللغات العربية والكلدانية والسريانية بعد أن درس اللاتينية والعبرية، وسرعان ما انكب على دراسة اللغة القبطية فى انتظار اكتشافه اللغتين الفارسية والصينية، كانت اللغة القبطية تجتذبه، وسرعان ما سيطرت عليه، وهى من بقايا اللغة الشعبية للمصريين القدامى، ولم تعد تستخدم إلا فى الطقوس الدينية، كما أنها تكتب بحروف يونانية ممزوجة ببعض العلامات التى تعبر عن حروف صوامت غير منطوقة، ولا توجد علاقة بينها وبين الخط الهيروغليفى، فمنذ القرن الرابع لم يتم نقش كتابة واحدة بالخط الهيروغليفى فى مصر، ولا يستطيع أحد فك طلاسم هذه اللغة التى ذهب سرها مع آخر كهنة العصور القديمة».
استسلم «شامبليون الصغير» تماما لدراسة اللغة القبطية، وينقل «سوليه» عنه: «كنت منغمسا فى هذه اللغة لدرجة أننى كنت ألهو بترجمة كل ما يخطر على ذهنى إلى القبطية، كنت أتحدث مع نفسى بالقبطية، ولفرط ما تفحصت هذه اللغة كنت أشعر أننى قادر على تعليم أحد أهم قواعدها النحوية فى يوم واحد، ولا جدال أن هذه الدراسة الكاملة للغة المصرية تمنح مفتاح المنظومة إلى الهيروغليفية، وقد عثرت عليه».
لم يحبس نفسه داخل إطار واحد، وإنما كانت اهتماماته متنوعة بصورة مدهشة، كما كانت قدرته على العمل عجيبة: «قام بالتوازى مع قواعد النحو القبطى بكتابة نبذة عن الموسيقى الإثيوبية، وبتحرير مذكرة عن المسكوكات العبرية، ودراسة «وصف جغرافى لمصر قبل غزو قمبيز»، يضيف «سوليه»: «كان شقيقه الأكبر يتابعه خطوة خطوة، ينصحه ويؤنبه ويعجب به ويمول مشترياته من الكتب، لا يمكن لأحدهما أن يعيش بدون الآخر، كانا يفعلان سويا كل شىء حتى التصرفات الخاطئة، كانت ميزة (شامبليون الصغير) عن منافسيه أنه كان مؤرخا وعالما باللغات الأجنبية وإخصائيا فى الجماليات فى وقت واحد، لم يكن مولعا بالقراءة فحسب، ولكنه واسع الخيال ويستمتع بحاسة استبصارية، وكان من جنس المخترعين».
هضم كل ما سبق اكتشافه فيما يتعلق بفك أسرار اللغة المصرية القديمة، كبعض التقدم بفضل حجر رشيد الذى اكتشفته الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، يقول «سوليه»: «نعرف منذ القرن الثامن عشر أن أطر النقوش الموجودة فى المعابد المصرية تشتمل على أسماء الملوك، وتحقق بعض التقدم بفضل حجر رشيد المشتمل على ثلاث نسخ، إحداها باللغة اليونانية، والأخريان بكتابتين مصريتين هما الديموطية والهيروغليفية»، وتوصل «شامبليون» إلى أن الكتابة المصرية بخطوطها الثلاثة (الهيروغليفى - الكهنوتى - الديموطى) تنتمى إلى منظومة واحدة ولغة واحدة، فهناك خط مقدس للكهنوت، وخط عادى مكتوب باليد، وخط شعبى يستخدمه المصريون فى حياتهم اليومية، وعلى هذا الأساس شرع فى معاينة نسخ حجر رشيد، ليكتشف مبدأ الكتابة المصرية».
يؤكد «سوليه» على أن بيان «27 سبتمبر» ترك أثرا عميقا، لكن شامبليون لم يكشف فيه إلا عن جزء من اكتشافه، ولم يصرح به كاملا إلا بعد عامين.