أرسل حاكم جزيرة سيلان تلغرافًا إلى أحمد عرابى فى مقر إقامته بمدنية كندى، التابعة للجزيرة، يوم 24 مايو عام 1901، وحسب المجلد الثالث من مذكرات «عرابى» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة»، قال الحاكم فى التلغراف: «إنه قادم إلى كندى ليبشرنا شخصيًا بصدور أمر الخديو عباس حلمى الثانى بالعفو عنا وعودتنا إلى وطننا العزيز».
كان قرار العفو عن أحمد عرابى وعلى فهمى باشا، وهما الاثنان الباقيان فى المنفى من زعماء الثورة العرابية السبعة، الذين تم نفيهم يوم 27 ديسمبر 1882، أما الخمسة الآخرون فكان مصيرهم حسب «عرابى»: «فى شهر فبراير عام 1900 صدر ترخيص لطلبة باشا عصمت بالعودة، وكذلك محمود باشا سامى البارودى فى عام 1899، وتوفى ودفن ثلاثة فى كندى، وهم يعقوب باشا سامى، ومحمود باشا فهمى، وعبدالعال حلمى».
يوضح «عرابى» حالته لما أبلغه حاكم الجزيرة بخبر العفو: «شكرناه على لطفه، وعرضنا عليه أن لنا الحق فى السفر على حساب الحكومة التى حملتنا إلى تلك الجزيرة، فأخذ بيانا بالأنفس التى معنا، وتخابر مع الحكومة الإنجليزية والمصرية فى شأن ذلك، فصدر الأمر بسفرنا على حساب الحكومة المصرية، فاستعددنا لذلك وشرعنا فى تسديد ما علينا من الديون شيئًا فشيئًا، حتى أبرأنا ذمتنا وطرحنا عن كاهلنا حملًا ثقيلًا، وفى أغسطس سنة 1901 بارح على فهمى باشا جزيرة سيلان، ودخل القاهرة فى أول سبتمبر».
غادر «عرابى» وعائلته وحاشيته وعددهم 21 شخصًا مدينة كندى صباح يوم 4 سبتمبر 1901، ويقول «عرابى»: «كان صالون الحاكم معدًا لنا فأقلنا القطار إلى كولمبو، أما احتفال أهل كندى بوداعنا فقد كان عظيمًا، حتى غصت أرصفة المحطة بالمودعين، وفى مقدمتهم محمد أفندى يوسف، والدكتور كيت، طبيب عائلتنا، وإبراهيم لبى وغيرهم، ولما وصلنا ثغر كولمبو نزلنا فى بيت صديقنا المحترم كرمجى جعفرجى فى بمبلابتيا، وأقمنا به 14 يومًا فى انتظار السفينة المسماة «البرنس هنرى» الألمانية الآتية من الصين، وفى تلك المدة دعينا لتوزيع المكافأة على الناجحين من تلاميذ مدرسة ميردانة الإسلامية التى صار افتتاحها بحضورنا على نفقة المسلمين، وزرنا المدرسة الحميدية لتوديع بيوت أعيان الثغر ونبهائه».
فى يوم 21 سبتمبر دخلت السفينة «البرنس هنرى» ميناء كولمبو، ويصف «عرابى» الحال التى سادت وهم يصعدون إلى السفينة: «تكدست جموع المودعين تكدسًا هائلًا حتى لم نتمكن من الوصول إلى السفينة إلا بشق النفس، وهناك تليت علينا قصائد التوديع من نخبة أهل سيلان، ثم سلمت إلينا فى محافظ من الفضة الخالصة البديعة الصنع، وفى الساعة الواحدة بعد الغروب نزل المودعون وهم يبكون للفراق، وتفرقوا جماعات، وأمطرت السماء مدرارًا، والطيور محلقة فى الجو فوق الميناء أسرابًا كأنها أتت لتوديعنا أو لمشاهدة ذلك الاحتفال، وأقلعت السفينة فى بعد ساعتين فى المحيط الهندى، وكانت حمولتها 1200 طن، ووددنا لو أن لنا أجنحة فنطير، وأخذنا نردد طول تلك الليلة قول القائل: «رياح الفلا هلا تكونين مركبى/فإن بخار القطر ليس بمسعف».
يواصل «عرابى»: «مرت الأيام والليالى حتى اجتزنا خليج عدن، والسفينة تتهادى فى مياه البحر الأحمر كأنها العروس ليلة زفافها، وبعد أن قطعت نحو ثلاثة آلاف ومائتى ميل رست فى ميناء السويس، فى غروب يوم 29 سبتمبر «مثل هذا اليوم» سنة 1901، وبتنا تلك الليلة فى السفينة وفى الصباح ودعنا من فيها وخرجنا إلى البر، ونحن نتنفس الصعداء ونلهج بأنواع الدعاء لله سبحانه تعالى لوصولنا إلى بلادنا سالمين بعد مرور 19 عامًا ذقنا فيها وتحملنا مكرهين ألم الفراق».
يضيف «عرابى»: «هناك نزلنا فى بيت الشيخ النجارى، بعد أن كتبنا إلى محافظ المدينة مصطفى بك ماهر الذى كان من تلاميذ عبدالله نديم، وكان معروفًا بحب الحرية والوطنية، فأنكرنا وأعرض عنا ولم يتنازل إلى الرد علينا، فبعثنا بتلغراف إلى مصلحة السكة الحديدية بتخصيص صالون لنزولنا وعائلتنا ومن معنا من السويس إلى القاهرة على حساب الحكومة، وفى أول أكتوبر برحنا السويس ووصلنا إلى القاهرة قبيل الغروب، وكان ازدحام الناس لتوديعنا فى محطة السويس عظيمًا، وكذلك كان استقبالنا فى الزقازيق وبنها بالرغم من تنبيه المحافظة الشديد بعدم التجمهر والاحتفاء، ولما نزلنا فى محطة القاهرة أخذنا المركبات إلى منزل أولادى بشارع الملك الناصر فى شارع خيرت، واجتمعنا بهم بعد غياب تسعة عشر عامًا وأربعة أشهر».