"المصريون أعظم البنائين فى التاريخ، فقد كانوا يفكرون عند تصميمهم الأهرامات والمعابد والأبينية بالغة الضخامة، وكأنهم عماليق، ووصلوا فى فنهم إلى حد الكمال"، هكذا وصف، وول ديورانت، المهندسين المصريين، فى كتابه الأشهر "قصة الحضارة"، ولم يكن المؤرخ الشهير يبالغ فى وصفه، فقد بنوا عجائب العصر القديم، وصنعوا معجزات العصر الحديث، ولقد غيرت حرب أكتوبر الفكر العسكرى الحديث، وأصبحت عملية العبور مرجعا أساسيا لكل الجيوش العالمية الحديثة.
ورغم أن حرب أكتوبر كانت معركة أسلحة مشتركة، قدمت مقطوعة متناغمة شديدة الصرامة والروعة، إلا أن ثمة أسلحة بعينها ابتكرت تكتيكات غيرت الكثير من المفاهيم العسكرية، حيث استطاع سلاح المهندسين أن يلفت انتباه العالم بمعجزة العبور، التى شمت فتح الثغرات فى الساتر الترابى بطريقة شديدة البساطة، وبناء الكبارى، وعبور الدبابات والأسلحة الثقيلة، ووقتها قالت الصحافة العالمية إن "المهندسين المصريين استطاعوا بناء الكبارى لعبور قناة السويس، وأن عملية المرور فيها أكثر سلاسة منها فى شوارع القاهرة".
إلا أن القصة لم تكن عملية العبور فقط، فلقد سبقت تلك المعجزة عدة إنجازات وإعجازات مدنية وعسكرية، سواء فى العصر القديم، أو العصر الحديث، فالمهندس المصرى كان أول من فكر فى شق الترع والمصارف، وإقامة شبكة رى بالمفهوم الحديث، لترسى قواعد الحضارة الإنسانية، كما كان أول من استخدم الحجارة فى البناء- هرم زوسر.
بناء دشم حصينة للطائرات بعد حرب 67
وبدأت ملحمة سلاح المهندسين بعد حرب 67 مباشرة، ببناء دشم حصينة لحماية الطائرات من ضربها على الأرض كما حدث خلال حربى 56 و67، ويقول أمين هويدى رئيس الحربية الأسبق، فى كتابه "الفرص الضائعة" إن تلك الدشم كانت أحد الدروس المستفادة بعد حرب 56، إلا أن عقم القيادة العسكرية وقتها تسبب فى عدم تنفيذها تلك التى إلا بعد حرب 67 عندما تم تغيير القيادة العسكرية.
ويضيف أن إسرائيل حاولت، بعدما لاحظت وجود تلك الدشم فى المطارات المصرية، الحصول على التصميمات الهندسية لتلك الدشم، عن طريق تجنيد أحد الشبان المصريين الذين كانوا يدرسون فى ألمانيا الغربية، إلا أن المخابرات المصرية استطاعت القبض على هذا الشاب متلبسا وبحوزته تلك التصميمات.
وعن أهمية تلك الدشم، يقول المؤرخ العسكرى البريطاني، إدجار اوبلانس، فى كتابه الشهير "حرب أكتوبر: العبور والثغرة"، أن تلك الدشم أثبتت فاعليتها الشديدة خلال حرب أكتوبر، وفرضت القيادة العسكرية صرامة شديدة فى استخدامها، بحيث تكون الطائرات فى دشمها دائما ما لم تكون فى الجو، وأن الطيران الإسرائيلى لم يستطع تدمير طائرة واحده على الأرض كما حدث فى حرب 67 ، مضيفا أن هذا النجاح الباهر دفع كل دول حلف وارسو لتطبيق الفكرة فى مطاراته.
حائط الصواريخ.. التغيير الاستراتيجى فى توازن القوى
بعد حرب 67 مباشرة أدركت القيادة السياسية أهمية الصواريخ المضادة للطائرات، وخلال حرب الاستنزاف سطر المقاتل المصرى سطورا مضيئة فى الصراع الشهير بين الطائرة والصاروخ، وفى النصف الثانى من عام 1970 قررت مصر الدفع بحائط الصواريخ من عمق البلاد إلى الحافة الغربية لقناة السويس، ووقتها لم تكن الصواريخ المضادة للطائرات متحركة – أى محملة على آليات- كما هو الآن، وإنما كانت صواريخ ضخمة تحتاج لتجيزات هندسية كبير قبل أن تدخل فى طور التشغيل، وكهذا دخلت مصر فى صراع إرادات مع طيران العدو الإسرائيلي، ولتوضيح ضخامة حجم التجهيزات الهندسية سابقة الإعداد التى كان علينا بنائها قال أحد المهندسين المصريين حسبما ذكر أمين هويدى فى كتابه:" مين أين سينأتى بالرمال التى لتجيز كل هذه الإنشاءات الخرسانية"، ولم تكن المشكلة هذه هى المشكلة وإنما كانت فى بنائها تحت قصف طائرات العدو.
وولتعبير عن حجم الإنجاز الذى تحقق ببناء حائط الصواريخ الت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك: "مواقع الدفاع الجوى المصرى كعش الغراب المشئوم، كلما دمرنا إحداها نبتت أخرى بدلا منها".. فى إشارة إلى إرادة وتصميم المصريين على استكمال حائط الصواريخ.
فيما قال اللواء محمد على فهمى "المشير بعدئذ" قائد قوات الدفاع الجوى منذ بعد حرب يونيو 1967، والذى تولى قيادة قوات الدفاع الجوى خلال حربى الاستنزاف وأكتوبر :"نجحنا فى بناء حائط الصواريخ فى أغسطس 1970، وعندئذ اختلفت الصورة تماما، وبدأ الطيران الإسرائيلى يعانى نزيف الخسائر التى تلحقها به قوات الدفاع الجوى المصري".
وفى تلك اللحظة اختلت موازين القوى فى المنطقة، حيث استطاع حائط الصواريخ بعد تحريكه أن يوفر شريط بكامل طول قناة السويس وبعرض من 12 إلى 15 كيلو متر شرق القناة موفرا بذلك الحماية الجوية الازمة لعبور الأفراد والأسلحة الثقيلة.
معجزة العبور
للتعبير عن حجم العقبات التى كانت تواجه المصريون عند عبورهم قناة السويس، قال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى خلال تلك الفترة إن "عملية عبور القناة وفتح الثغرات فى الساتر الترابي، وإنشاء الجسور تحتاج لسلاحى المهندسين السوفييتى والأمريكى مجتمعين".. ولم يكن ديان يبالغ فى قوله، حيث كانت قناة السويس أصعب مانع مائى فى التاريخ حيث كان عرضها يتراوح بين 180 و200 متر، وأجنابها حادة الميل ومكسوة بالحجارة لمنع انهيار التربة للقاع، ولتصعيب مهمة العبور قامت إسرائيل بإنشاء سد ترابى على الضفة الشرقية للقناة بارتفاع يصل إلى 20 مترا فى بعض المناطق الهامة، وقاموا بزحزحة الساتر إلى أن أصبح يتقابل مع ميل الشاطئ بزاوية ميل تراوح بين 45 و 65 درجة طبقا لطبيعة الأرض، مما جعل الأمر يستحيل عبور أى برمائية أو عربات مجنزرة فى ظل هذه الظروف، هذا إن نجحت فى عبور القناة أصلا.
ووراء كل هذا كان يقبع خط بارليف الشهير ويشمل 35 حصنا منيعا بالإضافة إلى 300 دبابة فى انتظار من سينجوا من عملية العبور، التى قدرت خسائرها بما يقارب من 35 ألف جندى.
وفى مذكراته عن الحرب يقول الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الإركان الأسبق إن الجيش المصرى حاول استخدام عدة وسائل لفتح الثغرات فى الساتر الترابى مثل استخدام المدفعية الثقيلية والديناميت إلا أن نتائج التجارب لم تكن مبشرة، وجاءت إجابة تلك المعضلة من أحد الضباط المصريين الذين عملوا فى بناء السد العالى حيث اقترح فتح الثغرات باستخدام مضخات المياة، وأجرى سلاح المهندسين تجربة على تلك الفكرة وكانت النتائج مذهلة، واثبتت جدارتها فى الحرب الفعلية حيث استطاع سلاح المهندسين فتح 70 ثغرة فى الساتر الترابى بكل منها 1500 متر مكعب، خلال سويعات.
وبعدها مباشرة قام سلاح المهندسين ببناء التالي:
- 10 كبارى ثقيلة لنقل لعبور الدبابات والمدافع والمعدات الثقيلة.
- 5 كبارى خفيفة حتى يمكنها تجتذب نيران العدو وبالتالى تخفف من هجوم العدو على الكبارى الرئيسية وتكون مشابهة للكبارى الثقيلة ولكن حمولتها 4 طن فقط.
- 10 كبارى اقتحام لعبور المشاة.
- تجهيز وتشغيل 35 معدية نقل عبر القناة.
وكل هذا يتم تحت القصف باستخدام كل الأسلحة من قوات العدو.
وكانت مصر تمتلك كبارى عبور إنجليزية بجانب الكبارى السوفيتية الرئيسية وكتيرا ما كانت تحدث إصابات فى الكبارى السوفيتية بسبب القصف وحينها، كان المنهدسون يستبدلون القطع المصابة من الكوبرى سوفيتى الصنع بقطع غربية ووقتها دارت نكتة فى أوساط الخبراء العسكريين تقول إن المصريين استطاعوا أن يجبروا الشيوعيين والرأس ماليين على العمل معا للمرة الأولى والأخيرة.
ويصف المؤرخ العسكرى البريطانى إدجار ابولانس عملية العبور بأنها كانت معجزة عسكرية مكتملة الأركان، مضيفا:" يكفى المهندس المصرى فخرا أنه استطاع إقامة عماية عبور دائرة للآليات الثقيلة كانت أكثر سلاسة من حركة المرور داخل القاهرة".