قام الرئيس التركى مصطفى كمال أتاتورك هو وضيوفه من على مائدة العشاء وانضموا إلى باقى معازيم حفل الاستقبال الراقص بفندق «لوزان بالاس» فى أنقرة، مساء يوم 29 أكتوبر «مثل هذا اليوم» عام 1932، وكان الحفل بمناسبة عيد النصر التركى حسبما يؤكد الكاتب الروائى يحيى حقى فى كتابة «صفحات من تاريخ مصر» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة».
كان «حقى» يعمل وقتئذ فى السفارة المصرية بتركيا، وكان عبدالملك حمزة وزير مصر المفوض فيها، ويروى «حقى» قصة هذا اليوم كطرف شاهد عليه قائلا: «كان الاحتفال يبدأ فى الصباح بعرض عسكرى، وبالنشيد القومى تهتف به مع الموسيقى النحاسية آلاف الحناجر، ومصطفى كمال واقف على منصة عالية فى حلته المدنية التى التزم بها منذ توليه رئاسة الجمهورية، وفى المساء يقيم حزب الشعب حفل عشاء جالس لا يحضره مع مصطفى كمال من رجال السلك الدبلوماسى إلا السفراء بزيهم الرسمى، يعقبه حفل استقبال راقص يتسع لبقية أعضاء هذا السلك».
شمل حفل العشاء الجالس على خلاف العادة جو مكهرب وفقا لحقى فى هذا العام «1932»، والسبب كما يقول «حقى»: «تلك اللهجة المحتدة التى بدت فى صوت مصطفى كمال وهو يخاطب سفير إيطاليا الجالس قبالته، البارون ألويزى الذى أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة الخارجية فى بلده». والسبب وفقا لحقى هو «حديث عن مشروع دار فى رأس موسولينى «الزعيم الإيطالى»، لإنشاء نوع من الحلف بين الدول الغربية للوقوف فى وجه النازية الطالعة بتصميمها على العبث بخريطة أوروبا».
قبضت نظرة مصطفى كمال على البارون «ألويزى» بوصف حقى مضيفا: «توجه بريقها إليه كأنه نصل سهم محمر فى النار لا بد أن يصب عليه غضبه من مشروع هذا الحلف، وخيم الصمت على الحاضرين، وشدت أعصابهم من شدة التوجس، وقال «كمال بحدة للبارون ألويزى»: «ماذا يظن بنا موسولينى، لو طمع فى احتلال شبر من الأناضول فإننى سأجند الأتراك جميعا وأحاربه إلى آخر رجل»، ثم خاطب كمال السفير الفرنسى الكونت دى شامبران لائما حكومته على وضع يدها فى يد موسولينى.
يشير «حقى» إلى ما فعله «أتاتورك» لكى يفرض على أمته أن تتحول من دولة شرقية تعتنق حكومتها الدين الإسلامى إلى دولة غربية علمانية، حيث فرض على الأتراك أن يخلعوا الطربوش وأن يلبسوا القبعة، وشنق رجلا لأنه عصى أمره وظل يرتدى الطربوش.
وبالرغم من هذا التشدد من «أتاتورك» فإنه فوجئ بعبدالملك حمزة يرتدى الطربوش فى هذا الحفل، فكيف كان رد فعله؟
يجيب حقى: «قام مصطفى كمال هو وضيوفه عن مائدة العشاء، وانضموا إلى بقية معازيم حفل الاستقبال الراقص، وعددهم لا يقل عن الخمسمائة، كلهم رؤوسهم عارية إلا رأس واحد، يلفت النظر بطربوشه الأحمر، إنه رأس عبدالملك حمزة، ولم يكن هذا الطربوش منزويا فى ركن أو ثابتا فى مكان، بل كان متجولا لأن لابسه لا يكف عن الرقص مع واحدة إثر أخرى».
كان «حمزة» صديقا لمصطفى كمال، وشاء حظه أن يمر بالقرب منه حسب تأكيد «حقى» الذى يصف المشهد بإثارة بالغة: «قطع مصطفى طريق حمزة حين مر أمامه واستوقفه والتفتت الرؤوس نحو الرجلين، قال كمال لحمزة بصوت مرتفع»: «يا أخى، اخلع طربوشك»، يضيف «حقى»: «مرت على عبدالملك لحظات رهيبة، وانتهى تدبره السريع للموقف أن لا يجابه رئيس الدولة أمام الحاضرين فخلع طربوشه عن رأسه بيده وتسلمه الخادم الذى وقف بجانبه، وسار به إلى حيث تحفظ المعاطف والقبعات»، وبعد دقائق أشار حمزة إلى توحيد السلحدار السكرتير الثانى وأحمد رمزى «الملحق» وخرج ثلاثتهم من الحفل بغير توديع لأحد وبغير استئذان من مصطفى كمال».
يؤكد «حقى»: «بعد قليل هرع توفيق رشدى أراس وزير خارجية تركيا إلى المفوضية المصرية ليؤكد أن رئيسه لم يقصد إهانة الوزير المفوض وإنما أراد التلطف»، لكن وحسب حقى: «احتجب حمزة عنه فى غرفة نوم وعكف على كتابة تقريره إلى حكومته»، ويؤكد حقى أنه هو الذى حمل التقرير وسافر بحرا من أنقرة إلى العاصمة اليونانية أثينا لإرساله فى مظروف بالبريد المسجل لوزارة الخارجية بالقاهرة، وذلك خوفا من إطلاع الأتراك عليه، ويضيف: «التقطت بعض الصحف الأوربية هذا الحادث وأضفت عليه تهاويل كثيرة، فأصبح مثار أزمة سياسية بين مصر وتركيا شهدت سحب مصر لوزيرها المفوض من أنقرة تعبيرا عن استيائها».