ذهب الكاتب الروائى سهيل إدريس مالك ورئيس تحرير مجلة «الآداب» اللبنانية إلى صديقه الشاعر نزار قبانى فى مكتبه ذات صباح بالعاصمة اللبنانية بيروت، وطبقا لراوية «قبانى» فى كتابه «قصتى مع الشعر»، فإنه قرأ لسهيل قصيدة هوامش على دفتر النكسة ومطلعها: «أنعى لكم، يا أصدقائى، اللغة القديمة/والكتب القديمة/أنعى لكم.. كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمة /ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة/أنعى لكم.. أنعى لكم/نهاية الفكر الذى قاد إلى الهزيمة».
يذكر قبانى رد الفعل على «سهيل»: «صرخ كطائر ينزف: أنشرها..أنشرها»، يضيف قبانى: «قلت لسهيل: إن القصيدة من نوع العبوات الناسفة التى قد تحرق مجلته،أو تعرضها للإغلاق أو المصادرة، وأننى لا أريد أن أورطه وأكون سببا فى تدمير مجلته»، فرد سهيل: «إذا كان حزيران قد دمر كل أحلامنا الجميلة، وأحرق الأخضر واليابس، فلماذا تبقى (الآداب) خارج منطقة الدمار والحرائق؟.. هات القصيدة «فأعطاه» قبانى «القصيدة»
يؤكد قبانى «صدقت توقعاتى وتوقعاته، إذ صودرت المجلة، وأحرقت أعدادها فى أكثر من مدينة عربية، وجلسنا فى بيروت، سهيل وأنا، نتفرج على ألسنة النار، ونرثى لهذا الوطن الذى لم تعلمه الهزيمة أن يفتح أبوابه للشمس وللحقيقة».
يؤكد قبانى أن «هوامش على دفتر النكسة» لم تستسلم للقمع والمطاردة، ويضيف: «أخذت تتناسل كما تتناسل الأرانب بشكل خرافى، كل نسخة كانت تلد عشر نسخ، وازدهرت عمليات النسخ والطبع على آلات الرونيو، ولم يعد للموظفين فى مكاتبهم الرسمية، وللطلاب فى جامعاتهم، وللجنود فى وحداتهم من عمل سوى طبع القصيدة بشكل مناشير وتوزيعها، وابتدأت ردود الفعل تأتى من كل مكان فى الوطن العربى، واستمرت القصيدة تتفاعل فى الوجدان العربى إيجابا وسلبا، واستمرت رسائل القراء وتعليقاتهم تتدفق على الصحف والمجلات قرابة ستة أشهر، حتى اضطر أصحاب هذه الصحف والمجلات إلى إغلاق باب المناقشة باعتبارها خرجت عن نطاق المعقول».
يلخص «قبانى» عناصر الهجوم عليه بسبب القصيدة بقوله على لسان مهاجميه: «أنا شاعر وهبت روحى للشيطان وللمرأة.. وللغزل الفاحش، فلا يحق لى بالتالى أن أكتب شعر الوطنية، وأنا المسئول الأول عن هزيمة حزيران، بما كتبته ونشرته خلال عشرين عاما، من شعر عاطفى ساعد على انحلال أخلاق الجيل الجديد، وأنا فى «هوامش على دفتر النكسة» سادى، أعذب أمتى، وأرقص فوق جراحها، وأنا أثبط الهمم، وأقتل الأمل، وبالتالى فأنا عميل أخدم بكلامى مصلحة العدو، ولذا يجب شطب اسمى من قائمة العرب.
أنا لست وطنيا، ولكننى أركب موجة الوطنية، وولادتى بعد حزيران (يونيه) كشاعر ثورى ولادة غير طبيعية»
تسللت القصيدة إلى مصر، رغم المصادرة الرسمية، حسبما يؤكد رجاء النقاش فى كتابه «ثلاثون عاما من الشعر «عن» دار سعاد الصباح–القاهرة»، مضيفا: «بدأت حملة عنيفة ضد نزار وقصيدته، وكان الذى بدأ بتفجيرها هو الشاعر صالح جودت، وكتب أول مقال له بعنوان: «امنعوا نزار قبانى» بمجلة الكواكب فى 12 سبتمبر 1967، ثم عاد ليكتب بعد أسبوع واحد أى فى 19 سبتمبر، مقالا جديدا بعنوان «فضيحة نزار قبانى»، قال فيه: «يعز على أن أفقد صديقًا عرفته منذ ربع قرن، ويحز فى نفسى أن أجدنى مضطرا إلى وضع اسم عربى فى قائمة المقاطعة».
كان النقاش رئيسا لتحرير «الكواكب»، التى يشن منها «جودت» حملته، واختار حسب تأكيده أن يرد عليه، ردا عنيفا فى مجلة المصور، لكن بعض موظفى الإذاعة والتليفزيون سارعوا إلى اتخاذ قرار بمنع إذاعة أغانى نزار، ومنع اسمه نهائيا من أجهزة الإعلام استجابة لدعوة «جودت»، ويضيف النقاش: «سمعنا عن قرار آخر من أجهزة الأمن بمنع نزار من دخول مصر، والحق أننى لم أقرأ مثل هذا القرار، ولم أسمع عنه شيئا من أى جهة رسمية».
فى هذه الأجواء سافر النقاش إلى بيروت، وذهب كما يؤكد إلى زيارة نزار فى مكتبه ببيروت ومعه سهيل إدريس يوم 30 أكتوبر (مثل هذا اليوم) عام 1967، وبدأ نزار يتحدث إليه عن ألمه وضيقه، مما حدث له فى مصر، وحسب النقاش فإنه طرح عليه أن يكتب بنفسه رسالة إلى عبدالناصر يشرح فيه الموقف ويطالبه بعلاج الأمر كله، ووعده بأن يحملها إلى القاهرة، وأن يعمل على توصيلها إلى عبد الناصر بوسيلة ما، ووافق نزار، وسهر على كتابتها فى نفس اليوم «30 أكتوبر 1967» وذهب إليه النقاش، ومعه سهيل إدريس فى اليوم التالى لتسلمها، لتبدأ رحلة هذه الرسالة طريقها إلى جمال عبدالناصر، ويكشف «النقاش» أسرار هذا الطريق وإلى شىء انتهى.
وتتواصل القصة