يتابع العالم باهتمام اليوم الأحداث السياسية المتصاعدة فى لبنان، بعد الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريرى، فيما يتزايد القلق فى المنطقة من احتمال إندلاع حرب إقليمية تكون لبنان فتيلها الذى يشعلها، لكن المطلع على أمور السياسة اللبنانية يدرك جيدا أن اللبنانيين اعتادوا مثل هذا التوتر السياسى الذى وصل إلى حد الحرب والاقتتال أكثر من مرة، وأصبحوا يتعايشون معه بهدوء نادر و"روقان" لبنانى محبب إلى النفوس، يجعل من هذا البلد الصغير رغم توتراته السياسية المتزايدة، البلد الأقرب إلى نفوس غالبية العرب.
فى السطور التالية، نستعرض 10 أحداث فى التاريخ الحديث للبنان، تظهر كيف أن التوترات هى جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية فى تلك البلد، ما يجعل من سياستها فريدة من نوعها حول العالم.
1-"الفراغ الرئاسى".. عامين و6 أشهر بدون رئيس للجمهورية للمرة الرابعة فى تاريخ البلاد
فى 31 أكتوبر عام 2016 انتخب العماد ميشيل عون رئيسا للبنان، بعد فترة فراغ رئاسى استمر لمدة عامين و6 أشهر، وتحديدا 888 يوما، وهى أطول فترة فراغ رئاسى فى تاريخ لبنان، والرابعة.
فى لبنان ينتخب الرئيس بطريقة غير مباشرة عبر نواب البرلمان بحضور ثلثى عدد الأعضاء، ويفوز بالرئاسة من يحصل على نصف عدد النواب، لكن نظرا للانقسامات السياسية لا يكتمل النصاب فى جلسات الانتخابات، لأن الانتخابات يجب أن تتم بتوافق كبير، انتخابات عون جاءت فى الجلسة 46، وذلك بعد فشل 45 جلسة انتخاب سابقة.
لكن الفراغ الرئاسى فى لبنان لم يكن الأول من نوعه، فهو فى الحقيقة الرابع فى التاريخ اللبنانى، الأول حدث عام 1952 واستمر أربعة أيام فقط، أما الثانى فاستمر لمدة عام كامل سنة 1988، والثالث كان عام 2008 واستمر 6 أشهر، والأخير والأطول منذ 25 مايو 2014 وحتى 31 أكتوبر، وهو الأطول فى تاريخ لبنان.
الجميل فى الأمر أن الحياة السياسة مضت بطريقة عادية للغاية، ولم يشعر الشارع اللبنانى بالتأثر نتيجة لهذا الفراغ.
2- البلد الذى ينظم أعمال السلطة فيه "كلمة شرف"
نتج استقلال لبنان عن الكثير من التفاعلات الناتجة عن الاستعمار الفرنسى والإنجليزى لبلاد الشام، وكان المسيحيون يطالبون الفرنسيين باستمرار "الحماية الفرنسية"، أما المسلمون فكانوا يطالبون بالإنضمام إلى سوريا، ولأجل الوصول إلى مرحلة وسط وافق الطرفان الذى مثلهما بشارة الخورى "المسيحى المارونى" ورياض الصلح "المسلم السنى"، على اتفاق بينهما أنه إذا تولى بشارة الخورى السلطة يصبح رياض الصلح رئيسا للوزراء، وكان هذا بمثابة "كلمة شرف" تحققت بالفعل.
"كلمة الشرف" هذه أو الميثاق كما يطلق عليه اللبنانيين، غير مكتوبة فى الدستور، بل استلزمت تعديل بعض مواد الدستور، وينص ببساطة على:
يجب أن يكون رئيس الدولة اللبنانية مارونيا.
يجب أن يكون رئيس الوزراء سنيا.
يجب أن يكون رئيس المجلس الوطني شيعيا.
يجب أن يكون نائب رئيس البرلمان اللبنانى من الروم الأرثوذكس.
3- الأزمات السياسية جزء من تاريخ البلاد يتعايش معه المواطنين
عرف لبنان الأزمات السياسية منذ وقت طويل، بداية من أزمة 1958 والتى اندلعت بسبب التوتر مع مصر، ووصلت إلى حد استدعاء الرئيس كميل شمعون لقوات المارينز الأمريكية لحمايته، وهو ما حدث فعلا فى العملية العسكرية التى عرفت باسم الخفاش الأزرق، حيث اجتاحت قوات المارينز الشواطئ اللبنانية وقامت بإنزال عسكرى، وبقيت متواجدة هناك لمدة 3 أشهر فى لبنان.
وفى عام 1975 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية فى البداية كجزء من رفض المسيحيين الموارنة فى لبنان وجود القوات الفلسطينية على أرضها، نظرا لما يمثله الأمر من إقحام للبنان فى حرب لا يقوى عليها، وكان الأمر فى البداية جبهتين، موارنة بالأساس يريدون طرد الفلسطينيين، وفى الناحية الأخرى الفلسطينيون المسلحين بقيادة حركة فتح، والدروز، والإشتراكيين والشيوعيين، والسنة، وهما الجبهتان اللتان كان واضحا للغاية تباينهما خلال المرحلة الأولى من الحرب والتى عرفت باسم "حرب السنتين".
انتهت هذه المرحلة عام 1976 بعد تدخل الجيش السورى عقب هزائم متتالية تعرض لها المسيحيون الموارنة، ولكن الحرب استمرت، وما حدث بعد ذلك أن الإنشقاقات ضربت الجميع، والتحالفات تغيرت عدة مرات، حتى الفلسطينيين أنفسهم قاتل بعضهم البعض، أما الجيش السورى الذى تدخل فى الأساس لإيقاف الهزيمة القاتلة بحق المسيحيين الموارنة، غير تحالفاته عدة مرات.
لا تتوقف الأزمات عند انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، بل أصبحت جزءا من تاريخ البلاد وازدادت وتيرتها باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريرى فى فبراير عام 2005.
وفى عام 2007، شنّ حزب الله عملية عسكرية أمنية واحتل بيروت بقواته، بهدف منع خصومه من تفكيك شبكة اتصالات خاصة به اكتشفتها الحكومة بالمصادفة.
4- فى لبنان فقط انقلاب عسكرى "تليفزيونى"
تمتلك المنطقة تاريخا طويلا من الانقلابات العسكرية، لكن لبنان وحده يمتلك انقلابا لم يحدث سوى فى "التليفزيون"، وهو انقلاب العميد عزيز الأحدب قائد منطقة بيروت العسكرية، والذى أعلن فى 11 مارس 1976، انقلابه العسكرى على شاشة التلفاز لمحاولة إيقاف الحرب الدائرة فى البلاد منذ 9 أشهر، وظهر فى وضع مهيب واضعا أمامه على المنضدة مسدسه، وأعلن توليه الحكم لمرحلة انتقالية وأن يتقدم الرئيس اللبنانى والحكومة استقالتهما فورا، وإعلان حالة الطوارئ فى البلاد وحظر التجول فى بيروت.
لكن ما حدث بعد هذا الإنقلاب هو لا شيء البتة!، لم تتحرك القطع العسكرية، ولم يقدم الرئيس أو الحكومة استقالتهما، ولم يفرض حظر التجول فى بيروت، واختفى العميد الأحدب حتى نهاية الحرب، فيما أطلق عليه اللبنانيين لقب "الجنرال تليفزيون"، وتوفى فى عام 2011.
5- حكومتين للبلاد لعام كامل.. واحدة مدنية وأخرى عسكرية
فى ظاهرة نادرة الحدوث، امتلكت لبنان حكومتين تدعى كل منهما الحق فى تولى الحكم، وذلك فى الفترة من سبتمبر 1988 وحتى أكتوبر 1990، حين انتهت ولاية الرئيس اللبنانى "أمين الجميل"، وتعذر الاتفاق على رئيس جديد، فما كان منه إلا أن قام بتسليم البلاد إلى حكومة "عسكرية" يرأسها وقتئذ العماد "ميشيل عون".
فى 5 نوفمبر انتخب رينيه معوض رئيسا للدولة اللبنانية، وقرر تكليف سليم الحص بتشكيل حكومة اتحاد وطنى، لكن رينيه معوض اغتيل فانتخب إلياس الهراوى رئيسا للجمهورية، وكلف سليم الحص أيضا برئاسة الحكومة، لكن ميشيل عون رفض هذا، وظلت حكومته موجودة معتصمة فى "قصر بعبدا"، وهو القصر الجمهورى فى لبنان رافضا الاعتراف بشرعية الرئيس أو الحكومة، حتى تاريخ 13 أكتوبر 1990 حين اقتحم الجيشان اللبنانى والسورى القصر، وأضطر ميشيل عون للجوء فى السفارة الفرنسية ببيروت، حتى سمح له بمغادرة البلاد إلى فرنسا والتى بقى فيها 15 عاما حتى عاد من المنفى فى 7 مايو 2005، وبعدها بـ 11 عاما أصبح رئيسا للبلاد.
فيديو عماد عون يرفض حكومة سليم الحص فى مارس 1989
6- فى لبنان لا أصدقاء للأبد ولا أعداء للأبد
كما أسلفنا فإن الجميع تحالف مع الجميع تقريبا خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية الممتدة، والجميع تقاتل مع الجميع، وأحيانا بلا أسباب منطقية، مثل تلك الواقعة التى يحكيها جورج حاوى رئيس الحزب الشيوعى اللبنانى، ففى عام 1984 كان عمر الحرب الأهلية اللبنانية 9 سنوات، وكان مازال بانتظارها 6 سنوات أخرى، فى هذه الأثناء كانت المعارك دائرة بين "حركة المرابطين" التى تنتمى للتيار الناصرى وأغلب أعضائها من "المسلمين السنة"، فى مواجهة حركة أمل "الشيعية المدعومة من سوريا"، اتصل وليد جنبلاط رئيس الحزب الاشتراكى التقدمى "دروز" بجورج حاوى "رئيس الحزب الشيوعى اللبنانى حليفه، اتفقا على خوض المعركة، فقال جورج حاوى إنه سيجعل من مدفعية حزبه تدك مواقع حركة "أمل" غدا، على اعتبار أن حركة المرابطين هى الأقرب فى الانتماء لهم، لكن وليد جنبلاط قال له كلا سنتدخل لنضرب حركة "المرابطين"، فكان رد جورج حاوى بسيطا: "حسنا سأجل المدفعية تدك مواقع حركة المرابطين".
بهذه البساطة حكى "جورج حاوى" الحكاية فى وثائقى قناة العربية "الحرب الأهلية اللبنانية الواقعة" فى هذا الفيديو
الحرب الأهلية اللبنانية أصلا هى خريطة من قتال الجميع ضد الجميع، يكفى مثلا أن تعرف أن حزب الله "الشيعى" وحركة أمل"الشيعية"، والحلفاء الوثيقين اليوم، خاضا حربا لمدة عامين تقريبا بين بعضهما البعض.
7- البلدة العربية الوحيدة التى لا يجوز أن يتولى الرئيس فيها الحكم لأكثر من فترة رئاسية.
تسمح الدساتير العربية كلها بالتجديد للرئيس عدة فترات رئاسية، سواء فترتان أو عدة فترات، وشهدنا كيف أصبح القذافى رئيسا لليبيا منذ عام 1969 وحتى 2011، أى لأكثر من 42 عاما.
كما أن بعض الأنظمة العربية ملكية يتولى أكبر رأس سياسى بها وهو الملك الحكم مدى الحياة، لكن لبنان هو البلد العربى الوحيد الذى ينص دستوره صراحة على أن فترة الرئاسة 6 سنوات، ولا تجوز إعادة انتخاب الرئيس إلا بعد ست سنوات من انتهاء ولايته.
ورغم النص الصريح إلا أن هذا الدستور تم انتهاكه 3 مرات، حيث تم التمديد للرؤساء، بشارة الخورى، وإلياس الهراوى، وإميل لحود لنصف مدة بعد انتهاء مدتهم الدستورية.
8- انتخابات رئيسية يتنافس فيها "سجين سابق" و " منفى سابق"
الانتخابات اللبنانية الأخيرة كانت نادرة من نوعها، فبالإضافة إلى أنها احتاجت 46 جلسة برلمانية لإتمامها، وعامين وستة أشهر، فهى انتخابات نادرة فى العالم العربى، لأن المتنافسين فيها هما "سجين سابق" و"منفى سابق".
ففى الانتخابات تنافس كل من "سمير جعجع" و"ميشيل عون" على منصب رئيس الجمهورية، جعجع ألقى القبض عليه فى عام 1994، وحوكم بعدة تهم وهى، اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامى، واغتيال رئيس حزب الوطنيين الأحرار دانى شمعون، واغتيال النائب طونى فرنجية وعائلته، وحكم عليه بالإعدام، لكن الحكم خفف بعدها للسجن مدى الحياة، بقى فى السجن منذ 1994 وحتى 2005، أى 11 عاما، وبعدها خرج بعفو نيابى ليمارس الحياة السياسية ويترشح عن تحالف 14 آذار للانتخابات، أما الرئيس الحالى ميشيل عون فقد ظل هو الآخر منفيا منذ عام 1990 وحتى عام 2005، كما أسلفنا من قبل.
9- فى لبنان فقط العاصمة مقسومة نصفين لـ 15 عاما
اندلعت الحرب اللبنانية فى بدايتها كعمليات انتقامية متبادلة بين المكونات السياسية اللبنانية، فالشرارة الأولى للحرب اندلعت يوم 13 إبريل 1975 حين قام مجهولون بإطلاق نار استهدف رئيس حزب الكتائب اللبنانية "مسيحيين موارنة" فى بيروت وأدى لمصرع شخصين من حراسه، وردا على ذلك أطلقت الكتائب اللبنانية النار على حافلة فلسطينية تضم عمالا فقتلت 27 فلسطينيا، أو ما عرف بـ"حادث البوسطة"، ومع انطلاق الحرب بدأت عمليات الخطف المتبادل والقتل على "الهوية".
وفى يناير 1976 قامت ميليشيات مسيحية باقتحام منطقة الكارنتينا ذات الأغلبية المسلمة وقتلت العشرات من السكان، فردت الميليشيات الفلسطينية بقتل العشرات من سكان منطقة الدامور ذات الأغلبية المسيحية.
الحادثتين أدتا فى النهاية إلى هجرة جماعية للمسلمين والمسيحيين بين طرفى بيروت، فأصبح شرق بيروت منطقة يسكنها المسيحيين، أما المنطقة الغربية فأصبحت ذات أغلبية مسلمة، وسمى الخط الفاصل بين المنطقتين بـ"الخط الأخضر"، وسمى بهذا الأسم لأن سكانه هجروه ونبتت فيه الحشائش والنباتات.
استمر الخط الأخضر موجودا حتى عام 1990، بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، والتى استمرت لمدة 15 عاما، لتكون العاصمة العربية الوحيدة التى بقيت مقسمة طوال 15 سنة كاملة، قبل أن يلغى الخط الفاصل وتعود الأمر إلى طبيعتها قبل الحرب.
10- بالنكتة والأغنية و"السهر" اللبنانيون يتفوقون على أزمات السياسة
فى ظل هذا التوتر السياسى الذى يشكل ملمحا أساسيا فى لبنان، أصبحت التوترات السياسية لا تشغل بال الكثيرين من اللبنانيين، فقد اعتادوا عليها وأصبحا جزءا من حياتهم، واستطاعوا إيجاد متنفس لهم بعيدا عن المشكلات السياسية المتعاقبة، بل والسخرية منها فى كثير من الأحيان وتحويلها إلى مادة قوية للمزاح.
ويمكنك مثلا أن تتذكر فى انتخابات الرئاسة الأخيرة، وفى جلستها الأخيرة فى ساعة فرز الأصوات حين صوت أحد النواب لـ "مريام كلينك" وهى عارضة أزياء ومطربة تمتاز بملابسها الجريئة، فما كان من رئيس مجلس النواب نبيه برى، إلا أن رد على الطرفة بما هو أطرف قائلا: "ميريام كلينك" من طائفة الروم الأرثوذوكوس والميثاق يقول أن الرئيس يجب أن يكون من طائفة الموارنة.
يمكنك مثلا كيف يسخر اللبنانيين من واقعهم، فى هذا الفيديو، والذى يظهر كيف حول الساهرون بأحد الملاهى الليلية ببيروت الأغانى لسباب داعش، وذلك بعد اختطاف التنظيم الإرهابى لـ 16 عسكريا لبنانيا من منطقة عرسال اللبنانية التى احتلها الدواعش.