ذهب إبراهيم باشا إلى مكة المكرمة فى موسم الحج، وأخذ مكانه بين الحجاج وصعد إلى جبل عرفات، وضحى بثلاثة آلاف رأس من الغنم وفاء بندره إذ أوتى بالنصر فى حربه ضد الوهابيين بجزيرة العرب، ويؤكد الدكتور عبدالحميد البطريق فى بحثه «إبراهيم باشا فى بلاد العرب»، المنشور ضمن كتاب «ذكرى البطل الفاتح إبراهيم» عن «الجمعية الملكية للدراسات التاريخية- دار الكتب- القاهرة»، أنه أثناء عودته من «عرفات» إلى مكة وزع الصدقات والمنح، واجتمع بجنوده الذين تقرر سفرهم إلى مصر، وودع ضباطه وجنوده الذين كان من نصيبهم البقاء فى مكة والمدينة وجدة وينبع والقنفدة.
فعل «إبراهيم باشا» ذلك بعد أن تقرر عودته إلى مصر عقب الانتهاء من مهمته الكبرى وهى خوض الحرب لإخضاع بلاد «شبه جزيرة العرب» إلى حكم محمد على باشا، ووفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على» عن «دار المعارف- القاهرة»، فإن هذه الحرب كانت «أول ميدان لحروب مصر الخارجية فى عهد محمد على، وكانت من أشق الحروب التى خاضت غمارها وأطولها مدى (1811-1819) ومن أكثرها ضحايا ومتاعب»، ويذكر «الرافعى» أسبابها، قائلا: «لما استفحلت الدعوة الوهابية أنفذت تركيا لإخمادها حملات عدة رجعت بالخيبة والفشل، وتعطلت شعائر الحج، وامتنع ورود عشرات الآلاف من الحجاج من أنحاء الشرق، فتزلزلت هيبة تركيا وأثرت هذه الحالة فيها تأثيرا كبيرا، ووقع الشك فى مقدرة السلطان العثمانى على الاضطلاع بمهمة «حامى الحرمين الشريفين»، تلك التى كانت تجعل لتركيا المقام الممتاز بين الممالك الإسلامية».
طلب السلطان العثمانى من محمد على أن يرسل جنوده لقمع الوهابيين عام 1807، لكن الباشا تعلل بانشغاله بمحاربة المماليك حسبما يؤكد الرافعى، ثم جدد السلطان طلبه فى أعوام 1808 و1809 و1810، حتى استجاب، ولم يكن ذلك تنفيذا لطموح عثمانى خالص، فحسب الرافعى: «رأى فى خوضه لغمار الحرب الوهابية تمكينا لسلطته ورفعا لشأنه وشأن مصر وإعلاء لمكانتها»، ويرى البطريق: «غرضه الأكبر كان السيطرة على الشام، وأن حرب الحجاز كانت طريقه إلى ذلك».
سافرت الحملة عام 1811، وكان طوسون ابن محمد على قائدها، ثم تولى «إبراهيم» القيادة، وطبقا للبطريق: «فى 5 سبتمبر سنة 1816 ودع إبراهيم أسرته ورجال الحكومة وأعيان البلاد وكان عمره 26 عاما، ولما دخل على والدته يودعها قبلته وباركت عزيمته، ثم ناطت برقبته عقدا من الجواهر سألته ألا ينتزعه إلا فى الحجرة النبوية الشريفة هدية منها إلى الضريح الشريف، فوعدها بالوفاء بهذا النذر»، أما والده فحمله بنصائح تتلخص فى بضع كلمات يذكرها «جيلبرت سينويه» فى كتابه «الفرعون الأخير» ترجمة: عبدالسلام المودنى «منشورات الجمل - بيروت»: «وعد زعماء القبائل الجشعين بالذهب والمغانم، والأكثر طموحا منهم بتسليمهم المحافظات التى سيتم الاستيلاء عليها، ومحاولة تفريق الطغمة الوهابية، وإقامة العداء بين البدو وسكان القلاع والمدن، وأخيرا الاستيلاء على الدرعية، الحصن الأكثر استراتيجية».
حقق «إبراهيم» انتصاراته وفتح الدرعية وانتهت الحرب، ويصف «الجبرتى» حال محمد على حين تلقى أخبار الانتصارات: «فى سابع ذى الحجة «أكتوبر 1818»، وردت بشائر من شرق الحجاز بمراسلة عثمان أغا الوردانى أمير الينبع بأن إبراهيم استولى على الدرعية والوهابية، فانسر الباشا لهذا الخبر سرورا عظيما، وانجلى عنه الضجر والضيق، وأنعم على المبشر، وعند ذلك ضربوا مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية، وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش»، ويذكر «سينويه»: «استمرت الاحتفالات سبعة أيام ظلت خلالها القاهرة منتشية، بينما كان الأسرى يصلون إلى بولاق، وقد نزعت أسنانهم، ويتم تشييد حصون على النيل من الورق المقوى يمثل الدرعية، ويوضع الأسرى داخله ليتمكن عامة الناس من التفرج عليهم».
بعد سقوط الدرعية، وحسب «البطريق»: «أخذ إبراهيم باشا فى تدعيم أركان الحكم فى بلاد العرب، وتأمين السكان على أموالهم وأملاكهم، وعنى بتعيين أنصار الحكومة فى الوظائف المحلية، وخاصة ما اتصل منها برئاسة القبائل وزعامة الأشراف، ولم يدخر وسعا فى تنفيذ سياسة أبيه من حيث مكافأة الموالين لمصر بتعيين المرتبات ومنح العلاوات وتوزيع الغلال والكساوى، وبلغ من رغبتهم فى استمالتهم وإظهار العطف عليهم أن عرض على بعضهم أن يرسل أولادهم فى بعثات تلحق بالأزهر الشريف على أن تخصص لهم الحكومة المصرية مرتبا كافيا يعيشون به فى القاهرة»، ويضيف البطريق: «فى 9 ديسمبر «مثل هذا اليوم» عام 1819 وصل إبراهيم إلى الميناء المصرية وتراءت له أرض بلاده، فخفق فؤاده ودمعت عيناه فرحا»، وفى اليوم التالى دخل القاهرة.