القُدس وما أدراكَ ما القُدس!
القدس مهوى أفئدة أصحاب الرسالات السّماوية عامّة، والمسلمين خاصّة.. القُدس مدينةٌ عربيةٌ، إسلاميّة التاريخ، إنسانيّة الحضارة..القُدس التى كانت تُعبِّرُ عن الإشعاع الرُّوحى، ومعانى السلام والتعايش والعيش المشترك بين الرسالات السّماوية فى ظل سماحة الإسلام وتسامُحِه.
فى القرن التاسع الميلادى، الثالث الهجرى، زارَ «برنارد الحكيم» القُدسَ، ووصفَها قائلًا: «إنَّ المسلمين والمسيحيين فى القدس ومِصر هم على تفاهم تام، حتَّى إننى إذا سافرتُ ونفقَ فى الطريق جملى أو حمارى وتركتُ أمتعتى مكانها، وذهبت لاكتراء دابّةٍ من البلدة المُجَاوِرَة، عُدتُ فوجَدتُ كُلَّ شىءٍ على حاله لم تَمسّه يدٌ، فقانون الأمن العام فى تلك الديار يقضى على كُلِّ مسافرٍ بالليل أن يكون بيده وثيقةٌ تُبَيِّنُ هُويّتَهُ، فإذا عدَمهَا زُجَّ فى السِّجنِ حتى يُحَقَّقَ فى أمره ويتَّضِحَ قَصدُهُ». نقولا زيادة، الأعمال الكاملة صـ151.
ونُلاحظُ من خلال ما ذكره السائح «برنارد الحكيم»، أّنهُ لم يذكر اليهود فى القدس، وإنّما ذكرَ التَّفاهمَ التَّام والتسامحَ بين المسلمين والمسيحيين فقط، ولو كان لليهود وجودٌ فى القدس آنذاك لذكرهم.
فالقدسُ رمزٌ يُعبِّرُ عن معانى السَّلام والتعايش والعيش المشترك، وقد مرّت بالقدس سنواتٌ وسنواتٌ من الصِّرَاعِ واشتدادِ الأزمات، والتَّعَرُّضِ للغزو والاحتلال، لكنها جازت كُلَّ المِحَن الَّتى مَرَّت عليها، وبعد كُلِّ أزمّةٍ تَستَعيدُ طَابعهَا العربىّ مرَّة أخرى.
إنّ قضيّةَ القدس هى القضيّة التى تجمع الصّفوفَ وتوحّدُهَا، وتُلهِبُ رُوحَ التَّضامنِ والعزيمة، حتى تستَردَّ الأمّة العربية والإسلامية حقّهَا المَسلوب والذى انغرس فى وُجدَانِ كلِّ حُرٍّ وأبىٍّ، فأصبح تَحريرُها عُنوانًا لتحرير فلسطينَ كلِّها من هذا الاحتلال الغَاشِمِ والجَاثِمِ عليها منذ سبعين عامًا.
وأعلمُ أنَّ العَامِلَ النَّفسىّ يَلعبُ دورًا مهمًّا تُجَاهَ هذه القضيَّةَ، لذلك يجب علينا أن نبقى نُعبّر عن حُبِّنا للقدسِ وتَمَسُّكِنا بها، وأن نغضبَ ونقِفَ وبكل قوّة أمام كلّ مُغتصِبٍ يريد أن يَسْلُبَ منّا حقنا، إيمانًا منَّا بعرُوبة القدس الشريف وإسلاميّتِها، وباعتبارها قضيَّة أساسية للأمة العربية وجوهر الصِّراع العربى- الصهيونى.
ولا شكَّ أنّنا جميعًا ضدّ القرار الجائر الظالم الذى يُخالف المواثيق الدُّوليَّة والذى صدر من الرئيس الأمريكى «ترامب»، بنقلِ السِّفَارة الأمريكيّة إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد صدق فضيلة الإمام الأكبر أ.د.أحمد الطيب، شيح الأزهر، حيثُ علّل رفضه لمقابلة «مايك بينس» نائب الرئيس الأمريكى: «كيف لى أن أجلِسَ مع من منحوا ما لا يَملكونَ لمن لا يستحقون».
فإنّ ما صدر عن «ترامب»، يُحتّم علينا أن نغضب، لكن ينبغى أن يكون الغضبُ مُنضبِطًا، ويَتْبَعُهُ حَشدُ الإمكانات المُتَاحَةِ وتوجيهُهُا لتكون قضيةُ القُدسِ من أولويّات قضايا الأمَّة، حتى تظلَّ فى وُجدَانِ العَالَمينِ العربى والإسلامى، وخطَطِهِ لمواجهة هذا القرار والاحتلال الغاشم والصّراع الفكرى والثقافى والحضارى.
إنَّ مشهدَ الشعوبِ وهى تهبُّ متظاهرةً ضد قرار «ترامب»، ونُصرةً للقدس ودفاعًا عن المقدسات، يُبرهنُ على أنّ الخيرَ ما زال فينا، ولكنّ هذا المشهد امتزج بشىءٍ من الآلام، وهى لماذا دائمًا نكون تحت وطأة الأحداث التى يَفتعلها الغرب، وتكون هذه الأحداث هى المُتحكِّم الرئيس فى حركة الشعوبِ؟
هل يعتقد إنسانٌ عاقلٌ أن القرار الأخير الذى اتخذه «ترامب» حصل فجأة؟! أم أنّه تمَّ عَبْرَ مراكز بحوث وصُنع القرار منذ سنوات؟
إنّ الكونجرس الأمريكى أقرَّ قانونًا منذ أكثر من عشرين عامًا، وتحديدًا عام 1995م، يّنصّ على وجوب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويُطالبُ بنقل السِّفارة من تلّ أبيب إلى القُدسِ، ورغم أنّ قرار الكونجرس الأمريكى مُلزِمٌ، لكنّه يتضمّن بَنْدًا يسمحُ للرؤساء بتأجيل نقل السفارة ستة أشهرٍ لحماية مصالح الأمن القومى، وهذا ما فعله «ترامب».
وهذا يُؤكِّدُ على أنّ القومَ لديهم مراكز بحوثٍ وَضَعَت وتضعُ الخُطَطَ المدروسة والمُحْكَمة التى تُحوَّل إلى المؤسسات المعنيّة لتنفيذها، بِغَضِّ النَّظر عن تغيّر الأحداث وتَبَدُّلِ السِّيَاسات.
إنّ القدس لن تعودَ إلا برسمِ السِّياسات واتخاذ خطواتٍ جادّةٍ، كى نكون قوةً لا يُستهانُ بها، سياسيًا- اقتصاديًّا- عسكريًّا- اجتماعيًّا- أخلاقيًّا.
إنّنا إذ نُعوِّل ونؤَمِّل، فإنّنا نُعوِّل ونُؤَمِّلُ على شُعُوبٍ فاعلةٍ ومُنتجةٍ، أمّا المتخاذلونَ والذين يرفعونَ أصواتهم ليل نهارٍ دون أفعالٍ وخطواتٍ تُتَّخذ على الأرض لنهضة ورفعة الأمة العربية والإسلاميّة، فلا نُؤَمِّلُ مِنهم، ولا نُعوِّل عليهم.
إن سِماتِ المجتمع الّذى يقع عليه هذا الشَّرف، لا ولن تَظهر فجأة، وإنَّما تُربّى الأجيالُ عليها فى جميع المؤسسات، وهى سماتٌ لا تخرجُ إلاَّ من نفوسٍ وطّنَت نَفسَهَاعلى العمل والإنتاج والمحافظة على البلاد والعباد.
الكل مسؤول، فإيَّاكُم والتَّثَاقُل ولو بِشِقِّ تمرة، ولو بشطر كلمة، بل انبعثوا بالتحفيز المنضبط والاستنفار الذى يعمل على تقويتنا فى كل جانب من جوانب الحياة، لحفظ مقدسات الأمة وحماية ثوابتها، فليس بعدها إلا الهوان التام فى الدارين.
وإياكم أن يأخذكم الحماسُ بعدم فقهِ وإدراك الواقع، فتفسدون أكثر مما تصلحون.
حافظوا على أوطانكم حتى تُحَرَّر مُقدَّسَاتكم.
يتبع..