حين ظهرت حملة "تمرد" لسحب الثقة من جماعة الإخوان المسلمين فى أوائل عام 2013، تهكم منها البعض ظنًا منهم أن هذه الحملة لن تجد صدى فى الشارع المصرى، لكن ما حدث بعد ذلك غير كل هذه التوقعات، فمصر ليست أبدًا "مجموعة من أصحاب الصوت العالى" على مواقع التواصل الاجتماعى، أو حتى المتصدرين للشاشات، بل هى أكبر وأعمق وأكثر من ذلك، هى 100 مليون مواطن يشكلون مزيجًا فريدًا من نوعه من التشكيلات البشرية والاجتماعية والاقتصادية، لا يمكن أبدًا أن تعبر عنهم فئة معينة، وما يعبر عنهم هو استطلاع رأى واسع فى أعماق شوارعها ومحافظاتها الممتدة بمدنها وقراها ونجوعها.
من جديد يظهر رأى الشارع المصرى بعيدًا عن ضوضاء "مواقع التواصل الاجتماعى" و"شاشات التلفاز"، حين أعلنت حملة "علشان تبنيها" تمكنها من جمع أكثر من 12 مليون استمارة تطالب الرئيس السيسى بالترشح لفترة رئاسية جديدة، 12 مليون من كل المحافظات ومن مختلف الشرائح الاجتماعية، لتظهر انعكاسًا واضحًا للحالة السياسية لشعب مصر كما يجب أن يكون، ممثلاً لهؤلاء الكادحين فى مصانعهم، و"الشقيانين" فى مزارعهم، والموظفين فى مكاتبهم، هؤلاء الذين لا تظهر أصواتهم سوى من خلال مسح شامل تمثله مثل هذه الاستمارات أو صناديق الانتخابات فى مرحلة تالية.
الخطوة التى مارستها المجموعة المؤسسة لـ"علشان تبنيها" عكست معرفة بطبيعتين؛ الأولى هى طبيعة الشارع المصرى الحقيقى، وهو الانكباب على "لقمة العيش" وعدم المشاركة فى الضوضاء، والعمل فى صمت وكذلك ارتفاع الوعى، والثانية هى المعرفة العميقة بزهد الرئيس السيسى فى الترشح للانتخابات، والذى بدا ظاهرًا أكثر من مرة فى خلال حواراته الصحفية أو كلماته حين سئل عن الترشح، إذ كان رده: "ده قرار المصريين".
انتبهت المجموعة المؤسسة لحملة "علشان تبنيها" للموقف ككل، سواء على مستوى القيادة أو الشعب، وتحركت على الفور لتقول للرئيس الزاهد فى السلطة إن المصريين يريدونه "علشان يبنيها"، مدركين تمامًا أننا فى منتصف مرحلة مهمة وخطيرة لا يجب فيها المغامرة بخسارة الإنجازات التى تحققت خلال الفترة السابقة، والمشاريع التى تم البدء فيها وسارت بطريقة سريعة، والتى كان الكثير منها سابقًا غير قابل للإنجاز أو التحقق، واستسلمت أمامه الإدارات المختلفة، مثل مشكلة اكتظاظ القاهرة مثلاً أو انتشار العشوائيات.
كريم سالم المتحدث الرسمى لحملة "علشان تبنيها"، كان واضحًا أيضًا فى عزم الحملة على استكمال طريقها، فحين سئل: "إلى متى تستمر الحملة؟" كانت إجابته إلى أن يعلن الرئيس ترشحه للرئاسة، وهو ما يدل على استبصار الحملة بهدفها الرئيسى وعزمها على أن تستكمل طريقها خاصة فى ضوء إدراكهم مدى حجم اتساع مصر، التى لا يمكن أن تعبر عنها فئة واحدة أو طائفة واحدة، وكذلك عزمها على مواصلة الضغط على الرئيس السيسى للترشح، وهو ما أجاب به بشكل واضح المتحدث الرسمى أيضًا خلال المؤتمر الصحفى، استبصارًا منه بزهد الرئيس فى مسألة الترشح لانتخابات الرئاسة، وانتظاره لقرار الشعب المصرى حول مسألة ترشحه.
يدرك الرئيس عبد الفتاح السيسى أيضًا أنه اختار الطريق الصعب للإصلاح، الطريق الذى تفاداه الكثيرون، ويدرك أيضًا أن المصريين تحملوا المشاق فى سبيل هذا الطريق، كما يؤمن بأن المصريين يجب أن يكونوا يدًا واحدة فى الفترة المقبلة، لذا فإن استكمال هذا الطريق الصعب ليس قرارًا للرئيس، بل هو قرار للمصريين أنفسهم لأنهم هم المضحون بعرقهم ودمائهم فى سبيل استكمال الإنجازات المبنية بأيديهم، لذا فإن المضى فى هذا الطريق إلى عنق الزجاجة، وإلى حيث الإصلاح الاقتصادى والنهضة التنموية، ليس قرارًا فرديًا يتخذه شخص واحد حتى لو كان رئيسًا للجمهورية، بل هو قرار تتخذه أمة بأكملها، وهذه الأمة على ما أوضحته الأرقام التى أعلنت اليوم تريد استكمل هذا الطريق لآخره.
فى أسابيع قليلة 12 مليون شخص وقعوا الاستمارة للرئيس، قائلين له: "معك سنبنيها، ونستكمل إنجازاتها، ونمضى فى طريقنا نحو اقتصاد قوى، ونهضة تنموية، ودولة قوية تمتلك قوت يومها وقرارها"، يضغطون على الرئيس عبد الفتاح السيسى كى يستجيب لمناشاداتهم، فهل يستجيب الرئيس لهذا الضغط الشعبى العارم.