فى الوقت الذى يدفع العديد من رجال الشرطة ثمناً فادحاً لمواجهة الإرهاب والجرائم من دمائهم وأرواحهم، ويسهرون لحفظ الأمن وحماية الأرواح ويسقط الكثيرون منهم شهداء فداء للوطن ومواطنيه، يدفع الكثيرون منهم ضريبة غالية من الكراهية التى تنشأ نتيجة تجاوزات وجرائم فئة منهم اعتادت خرق القانون، حتى استخدم الكثيرون مصطلح دولة أمناء الشرطة.
وقد انبرى الكثيرون من أمناء الشرطة للدفاع عن أنفسهم رافضين محاولة تحميلهم كل أخطاء الداخلية، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد الاعتصام والقبض على عدد منهم، وطرحت وزارة الداخلية بعض الحلول، منها أن تحل وظيفة معاون الأمن بديلا لوظيفة أمين الشرطة، حتى يتم الاستغناء التدريجى عن هذه الفئة.
فهل القضية بهذه البساطة؟ وهل حقا يمثل أمناء الشرطة دولة داخل الدولة وداخل جهاز الشرطة؟ ومن الذى بنى هذه الدولة؟ وهل يمكن هدمها واستئصال رجالها؟ وهل يتحملون وحدهم كل التجاوزات؟ وما نتيجة الصدام ومحاولات استئصال هذه الفئة أو تحميلها كل أخطاء جهاز الشرطة؟
طرحنا هذه الأسئلة على الدكتور يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى وحاول معنا الإجابة على بعضها:
فى البداية.. هل يمكن أن نضع تحليلا نفسيا لشخصية أمين الشرطة وما تصبغه عليه وظيفته من سمات قد يشترك فيها عدد كبير من العاملين بهذه الوظيفة؟
- لا يوجد تحليل نفسى لفئة بأكملها من منظور نفسى يمكن بناؤه على معلومات تصل عن طريق قراءة أو مشاهدة بعض ما يجرى من خلال وسائل الإعلام، ثم إننى أكرر دائما أن أى تعميم هو خطر من حيث المبدأ لأنه ينسب لجماعة بأكملها صفات لا تنطبق عادة على أغلبية أفرادها، ومهما بلغ من بشاعة تصرفات بعض الأفراد فإن الجماعة الكل تظل لها مقوماتها المستقلة عن مجموع أفرادها، فما بالك إذا كانت البشاعة والتجاوز جاءت من قلة فقدت كل معانى المسؤولية، بل والوطنية، ناهيك عن التجاوز الخلقى والقانونى والدينى، وليس معنى هذا أننى أدافع عن أمناء الشرطة بصفة عامة، فالمخطئ لا بد أن يحاكم ويأخذ جزاءه حتى لو وصل إلى الإعدام ما دام القانون أجاز ذلك.
أما أن وظيفة قد تصبغ شاغلها بصفة معينة فهذا وارد من حيث المبدأ، وعلينا أن نراجع مناهج دراساتهم، وطرق تدريبهم فى المعاهد التى يتخرجون فيها، فضلا عن أننا نمر بمرحلة اهتزت فيها القيم عند كل الناس بما فى ذلك أمناء الشرطة.
وهل ساهمت ظروف العمل والمجتمع فى الحال الذى وصل إليه بعض أمناء الشرطة أو فئة كبيرة منهم بأن يضرب الكثير منهم بالقانون عرض الحائط ويتعاملوا بعنف يصل إلى درجة قتل بعض المواطنين أحيانا أو انتهاك الأعراض وغيرها من جرائم؟
- لا بد أن نعترف أن المؤسسة البوليسية كلها قد نالت قدرا من الإهانات والاستهانات منذ الهجوم على أقسام الشرطة فى 25 يناير 2011، وهو ما شعر معه كل أبناء الشرطة وليس فقط الأمناء أنهم ظلموا، وتحملوا أخطاء نظام بأكمله، ولا ننسى دلالة أن 25 يناير تاريخ الثورة هو 25 يناير عيد الشرطة، وكان لذلك دلالة لا تخفى على أحد، وما زال سوء الفهم والظلم مستمرا.
وأحب أن أؤكد أن القتل وانتهاك الأعراض لم يصل إلى حد الظاهرة، هذه الأحداث قبيحة ومرعبة ومرفوضة لكنها- عددا- ما زالت أحداثا فردية لا يصح أن توصف بالظاهرة، لكن أن يصدر مثل ذلك- مهما كان نادرا- من بعض أفراد هيئة وظيفتها أن تمنع القتل وتحافظ على الأعراض فهذا هو المزعج فى الأمر، وأرى أن الإعلام المرئى والمسموع والمكتوب يقوم بدور سلبى فى تضخيم هذه الأحداث دون أن يضع فى الاعتبار أثر ذلك على كل هيئة الشرطة، بل على هيبة الدولة بأكملها ناهيك عن أثره على السياحة والاقتصاد، ونحن فى أمس الحاجة هذه الأيام إلى أن نلملم أنفسنا لنبدأ من جديد، علينا أن نؤكد مبدأ أن الخطأ لا يصححه خطأ آخر.
وعموما لا توجد ظروف محيطة مهما بلغت قسوتها تبرر الجريمة والاعتداء على كرامة المواطنين، ناهيك عن حياتهم مهما كانت هذه الظروف قاسية تماما.
وهل العيوب النفسية والتجاوزات التى تحدث من أفراد هذه الفئة ترتبط بطبيعة وظروف العمل أم أنها عيوب شخصية وفردية؟
- طبعا، طبيعة ما نمر به جميعا شعبا وحكومة، «بوليس» وجيشا، لابد أن تؤثر على الجميع، أما بالنسبة لهذه الفئة بالذات فلابد من الإحاطة بظروف تصعِّب عليهم المسألة أكثر، فأمين الشرطة عليه واجبات أعتقد أنها لا تقل عن واجبات رؤسائه من الضباط، وفى نفس الوقت لا يأخذ نفس التقدير، ولا نفس الاعتبار، ولا نفس المرتب، وهو فى موقع وسط لا هو جندى عادى يؤمر فينفذ، ولا هو ضابط عظيم يأمر فيطاع، فكأنه مثل الذى رقص على السلم، فتعتمل المقارنات فى نفسه طول الوقت، ويتراكم الحقد الذى قد ينفجر بغير رادع فى أى فرصة سانحة، فيدفع بعض الأبرياء الثمن.
تنصب كل الاتهامات الحالية على فئة أمناء الشرطة ومحاولة تحميلهم كل العيوب بجهاز ومنظومة الداخلية.. فما رأيكم فى هذا وما نتائجه؟
- بصراحة، برغم جسامة الخطأ فعلينا أن نستلهم العدل فى إصدار أحكامنا، ليس فقط فى ساحات المحاكم وإنما بيننا وبين أنفسنا أمام الله «وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?»، وكذلك «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا» فبعد أن ينال المتهمون فى هذه القضايا من أمناء الشرطة جزاءهم لا بد من الالتفات إلى كل العيوب القائمة فى جهاز الشرطة، والتى أدت إلى هذه التجاوزات.
من وجهة نظركم لماذا برزت كل الحوادث فى وقت وفترة واحدة؟
- لا أستبعد أن يكور وراء هذا الانتشار المتزامن خونة يريدون أن يشوهوا صورة الشرطة، وبالتالى صورة الدولة، فلا تنسى أن الرسالة التى قد تصل إلى الناس يمكن أن تتضمن معنى يقول: «انظروا هؤلاء هم الذين يدعون حمايتكم» وهؤلاء هم الذين نزعوا السلطة من الشرعية، وبالتالى يبررون قتل جندى برىء له أسرة تحتاجه وهو يحرس فى كمين مرور فى أقصى الصعيد، وكأنهم بذلك يكسرون تعاطف الشعب مع الذين يضحون من أجلنا، وينكرون على قتيل الشرطة أن يعتبره الناس شهيدا وبطلا، وكل هذا يخدم الخونة وأعداء الشعب، والأيدى القذرة تستعمل أى سلاح وأى أشخاص لتحقق أغراضها القذرة.
يتحدث الكثيرون عن دولة أمناء الشرطة ويرون أن الحل فى استئصال واستبعاد هذه الفئة وإيجاد بديل طرحته وزارة الداخلية فى وظيفة «معاون الأمن» مع خروج أمناء الشرطة واستبعادهم عن طريق المعاش المبكر من سن 45 سنة، فما رأيكم فى هذه الحلول، خاصة أن هناك ما يقرب من 360 ألف فرد أمن بما يعادل 8 أضعاف عدد ضباط الشرطة؟
- لا شك أن هناك خطأ فى التركيبة الدراسية والتدريبية التى كانت وراء إنشاء هذه المنظومة، إن جيلى كان يعرف وظيفة اسمها «كونستابل» وأيضا كان يعرف من يمثله «الشاويش عطية» بطيبته وقوته وعدله وخفة ظله، لكن هذه الفئة من أمناء الشرطة للأسف نشأت لتجمع- غالبا- الفاشلين دراسيا- لو نسبيا- ثم لا تعلمهم الأخلاق مع الواجبات، فيندرجون ضحايا لفساد التعليم حتى اختفائه من كل المدارس والمعاهد تقريبا، وهذا هو الخطر الأكبر، وبالتالى لا توجد معاهد لتخريج هؤلاء الأمناء ليحموا البلد.
أما أن تحيل الآلاف إلى المعاش المبكر فلابد أن نتذكر أسرهم وما يصيبهم من جراء ذلك كما نتذكر المعاشات التى سيتقاضونها وهم على المعاش فى سن «الفتوة»، وقد اعتادوا على التجاوزات بالبدلة الميرى، فما الذى يمنعهم من التجاوزات بالجلابية أو اللبس المدنى.
ثم خذى عندك التفكير فى البديل، هل هو جاهز فعلا لملء الفراغ؟، أم هى مجرد إجراءات انتقامية وانفعالات جماعية على الناحيتين تزيد الأمور سوءًا؟
وكيف ترون نتائج الصدام مع هذه الفئة سواء من جانب الدولة أو المواطنين؟
- الصدام، وخصوصا فى هذه الظروف لا يحل إشكالا، ولا ينقذ بريئا، ولا يمنع جريمة، والصدام فى هذا الوقت بالذات أعتبره نوعا من خيانة الوطن مهما كان أحد طرفيه مظلوما، نحن فى حالة حرب مستمرة مع جهات معلومة ومجهولة، وعلينا أن ننتبه إلى الأعداء المعروفين الظاهرين وإلى الأعداء المتربصين وإلى المتآمرين المختفين، وأى صدام يخدم هؤلاء الخونة الأعداء ولا يخدم أيا من المتصادمين ولا حتى يرجع الحق إلى الفئة المظلومة منهم، وقد انزعجت انزعاجا بالغا من احتجاجات أمناء الشرطة كجماعة فى طول البلاد وعرضها منذ شهور، وأرى أن أى مطالب فئوية ينبغى أن تؤجل حتى تسترد الدولة عافيتها، لأن انهيار الدولة سوف يلحق الأذى بالأصغر والأفقر وليس بالظالم والأكثر ثراءً.
هل يمكن إعادة تقويم هذه الفئة؟ وما هى الحلول من وجهة نظركم للتعامل مع أزمة دولة أمناء الشرطة «إن وافقتم على هذا المصطلح»؟
- طبعا كل شىء وارد، ومع أننى لا أوافق على هذا المصطلح «دولة أمناء الشرطة» ولكن إذا سمحنا باستعماله فإننى لا أقصره على الأمناء، فعندنا دولة الميكروباص ودولة الرشاوى والتحيزات، ودولة المدرسين الذين أغلقوا المدارس لحساب المراكز والغش فمحوا التعليم، ودولة التهريب، ودولة الخنادق على الحدود، وقبل هذا وبعد ذلك فإن كل هذا فى خدمة دولة داعش، وعلينا شعبا قبل الحكومة أن نبنى دولتنا وهى تخرج من هذه السنوات «الكبيسة» مثقلة بكل هذه الأعباء فى مواجهة كل هذه الدول الداخلية والخارجية الممولة من الحلفاء فى الخارج، دولة إسرائيل ودولة تركيا ودولة العولمة ودولة الدولار وربما دولة إيران.
أما الحلول فلابد أن يتحمل كل فرد من المائة مليون مصرى مسؤولية مواجهة كل هذا، بدءًا بنفسه فعلا، مهما كان مطحونا أو مظلوما، والمواطن الحقيقى هو القادر على أن يحسب مصلحة وطنه ومستقبله وهو يعانى ويحسب مصلحته واحتياجاته فى نفس اللحظة التى يرى فيها «آثار ما يفعله على الوطن جميعا» هذا كلام يوجه للأمناء كما يوجه للأطباء على حد سواء، وهو يسرى على معظم الاحتجاجات الفئوية فى هذه المرحلة.
كيف ترون من وجهة نظركم الحلول لإعادة الثقة بين الشرطة والشعب وحل الأزمات المتكررة التى كانت ولا تزال من أهم أسباب ثورة يناير وتهدد بمزيد من الانفجارات؟
- استعادة الثقة ضرورة ملحة ولها أولوية بالغة، لكن أى استعادة للثقة تحتاج إلى زمن من الممارسة التصحيحية، وإعادة النظر فى أخطاء المنظومة بأكملها حتى يصدق من فقدوا الثقة فيها أن الأمور تغيرت فعلا من واقع ما يمارس، وما يختبر من قيام العدل وتبادل الاحترام، وتقديس القانون فى الشارع والمصالح قبل أقسام الشرطة والمحاكم، وعلينا أن نبدأ الآن، كل من موقعه.
البدايةعام 1967
يبلغ عدد أمناء الشرطة حوالى 360 ألف فرد وأمين شرطة على مستوى الجمهورية، وهو ما يقرب من 8 أضعاف أعداد ضباط الشرطة، واستحدثت هذه الوظيفة بوزارة الداخلية بعد إنشاء معهد أمناء الشرطة عام 1967 على يد شعراوى جمعة، وزير الداخلية فى ذلك الوقت، بهدف أن يحل أمين الشرطة من خريجى هذا المعهد محل «الكونستبل»، وهو أحد أفراد الشرطة فى مصر قبل هذا التاريخ، ووضعت الوزارة شروطا للالتحاق بمعهد أمناء الشرطة، منها أن يكون الطالب حاصلا على الثانوية العامة أو ما يعادلها، ويكون والداه مصريى الجنسية، ويتمتع بسمعة طيبة، وألا يكون هو أو أحد أفراد أسرته سبق اتهامه فى قضايا جنائية أو جنح، وتكون الدراسة فى هذا المعهد لمدة عامين، يدرس خلالها الطالب المواد الشرطية والحقوقية، ويتخرج بدرجة أمين شرطة ثالث، ويتدرج من ثالث إلى أمين ثانى ثم أمين أول، ويتمتع أمين الشرطة بمزايا أهمها، الالتحاق بالعمل بوزارة الداخلية فور تخرجه، والعلاج على نفقة وزارة الداخلية، والاشتراك بنادى أمناء الشرطة، وفى حالة حصوله على ليسانس الحقوق يتم التحاقه بكلية الشرطة والتخرج ملازم.