استوقف أحد المشايخ فى أم درمان بالسودان اللورد كرومر، مندوب الاحتلال البريطانى فى مصر، أثناء إلقائه خطابًا، وسأله عما إذا كانت الشريعة الإسلامية ستكون محترمة ونافذة المفعول فى السودان، فدارت المناقشات وظهر منها أن «النية متجهة لفتح السودان للرسالات التبشيرية على نطاق واسع، خصوصًا فى السودان الجنوبى»، «راجع: دكتور محمد فؤاد شكرى - مصر والسودان - دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة».
كان سؤال الشيخ والإجابة عنه ينفذان إلى المستقبل الذى ينتظر السودان فى مسألة من سيحكمه، مصر كما هو متبع، أم الاحتلال البريطانى؟، وكانت خطبة كرومر كلها تدور حول ذلك، وتؤسس للإجابة عن سؤال مازال مطروحًا: هل كان السودان محكومًا حقًا بإدارة مصرية وقتئذ، وحتى رفع علم السودان كدولة مستقلة فى 1 يناير 1956؟
وفقًا لأحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى، فى مذكراته عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة»، فإن كرومر ألقى خطابه أثناء زيارته إلى السودان، التى بدأت بوصوله أم درمان يوم 3 يناير 1899، وفى يوم 4 يناير خرج من الوابور، وسلم عليه كبار الضباط من مصر وإنجلترا، وقام بعدة جولات، وفى يوم 5 يناير «مثل هذا اليوم» وضع حجر الأساس لكلية جوردن باسم ملكة إنجلترا، وإمبراطورة الهند، وسمو خديو مصر عباس حلمى الثانى.
طرح الشيخ السؤال، لأنه وكما يقول الخديو عباس الثانى فى مذكراته «عهدى» عن «دار الشروق - القاهرة»: «وجد اللورد الحذق كرومر أن يقترح على حكومته وضعًا جديدًا للسودان، فى أثناء خطبة ألقيت فى اجتماع المشايخ فى أم درمان، فى الأيام الأولى من عام 1899، قال اللورد: فى المستقبل سوف تحكمون بواسطة ملكة إنجلترا وخديو مصر»، ولأن كرومر لم يخفِ هدفه ولا نيته، دارت الأرض بالخديو عباس الثانى، ويعبر «شفيق» عن ذلك: «لما تلقينا رسالة بما قاله كرومر، كان لها وقع شديد فى نفوسنا، إذ كانت إعلانًا صريحًا من الجانب الإنجليزى بأنه لا يبغى الاشتراك فقط فى حكومة السودان، بل ويعتزم غل اليد المصرية نهائيًا عن التدخل فى شأنه، مادام السردار الإنجليزى هو الشخص الوحيد الذى سيقوم بالأمر، وبهذه الخطبة اتضحت خطتهم المقبلة فى السودان، وكانت موضع دهشة، حتى أن الخديو عندما بلغته قال: إننى لا أصدق أن يكون هذا نص خطبة كرومر، ولكن تبين فيما بعد أنه هو النص الصحيح».
وحسب نص الخطبة كما جاءت فى كتاب «مصر والسودان» لمحمد فؤاد شكرى، قال كرومر: «أهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش «المهديين»، بفضل ما أظهره السردار وضباط من الحذق فى تدبير القتال، وبما برهن عليه الجنود البريطانيون والمصريون من الشهامة والثبات، وأنتم ترون العلمين البريطانى والمصرى يخفقان فى هذا المكان، وفى هذا إشارة إلى أنكم ستحكمون فى المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر، والنائب الممثل الوحيد فى السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية سيكون سعادة السردار، الذى أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما، واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن، بل أن السردار هو الذى سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحد غيره، ولست أشك فى أنه يحقق أمانيكم، ويحقق لكم كل ما ترجون».
«إنى أعرف أن مساوئ كثيرة كانت موجودة أيام الحكم المصرى فى السودان، فلم تكن هناك محاكم تستحق هذه التسمية، وكانت الضرائب ثقيلة، والإتاوات التى كانت تحصل زيادة على الضرائب، كان كثيرًا حدوثها، ولكن فى وسعكم أن تطمئنوا الآن لعدم عودة هذه المساوئ مرة ثانية، وإنى واثق من أن السردار سوف يكون فى وسعه قبل مضى وقت طويل أن يؤسس نوعًا بسيطًا من المحاكم التى تقوم على توزيع العدالة بالتساوى على جميع الناس، غنيهم وفقيرهم على السواء، سوف يطلب منكم بطبيعة الحال دفع الضرائب، ولكن هذه سوف تكون بمقادير معتدلة وفى مواعيد محددة، حسب ما جرى به العرف القديم، ولكم أن تعرفوا أنه لن يطلب منكم إتاوات استثنائية، وسف تقوم جماعة قليلة من الضباط الإنجليز فى كل جهة حتى يروا تنفيذ هذه القواعد بدقة».
عاد كرومر إلى القاهرة يوم 13 يناير 1899 حسب تأكيد شفيق باشا، وفى 17 يناير زار الخديو، ودار الحديث بينهما حول هذه الخطبة، ويقول «شفيق»: «فى 19 يناير انعقد مجلس النظار للنظر فى الاتفاق المشؤوم الذى أبلغه كرومر لبطرس باشا غالى، ناظر الخارجية، وبمقتضاه أصبحت إدارة السودان ثنائية بين مصر وبريطانيا».