مرض مصطفى فهمى باشا، رئيس النظار، بمرض خطير فى الرئتين، فانتهز الخديو عباس حلمى الثانى الفرصة وقرر إقالته، حسب تأكيد أحمد شفيق باشا «رئيس ديوان الخديو عباس» فى الجزء الثانى من مذكراته الصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة»، غير أن الخديو الذى تصور أنه يستخدم سلطاته، فوجئ بأن سلطته مقيدة بصاحب الكلمة الأولى والأخيرة وهو اللورد كرومر، مندوب الاحتلال البريطانى فى مصر، مما أدى إلى نشوب أزمة كبيرة، هى «الأزمة الفهمية»، التى بدأت من 15 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1893، واستمرت لأيام كاد الخديو يفقد عرشه بسببها.
نشبت الأزمة بعد عام من تولى «عباس الثانى» الحكم خلفا لوالده الخديو توفيق الذى توفى يوم 7 يناير 1892، كان عباس يبلغ من العمر وقتئذ «19 عاما» مواليد «14 يوليو 1874»، ووفقا لمحمد عودة فى كتابه «ليبراليون وشموليون وقصة الديمقراطية والحزبية فى مصر» عن «دار الهلال - القاهرة»: «استغرق الخديو الشاب عامه الأول فى التعرف إلى شعبه وإلى وطنه».
حين تولى عباس الحكم كان «مصطفى فهمى» رئيسا للنظار، وهو المولود فى «كريت» باليونان يوم 11 يناير 1840، والأب لابنة واحدة هى «صفية» التى تزوجت سعد زغلول باشا، فصارت «صفية زغلول»، وهو فى رأى فتحى رضوان فى كتابه «مصطفى كامل» عن «دار المعارف - القاهرة»: «صديق بريطانيا وأكثر الوزراء المصريين ولاء لها وإيمانا بسياستها»، وفى رأى محمد عودة: «أحد الذين عبروا إلى الجانب الآخر مع السيل الذى فعل ذلك بعد هزيمة الثورة العرابية، لكنه فاقهم جميعا فى التفانى والولاء، وقرر أن يغير طريقة حياته الشخصية والعائلية، وكانت خليطا من طريقة الحياة العثمانية والفرنسية اقتبسته الطبقات العليا المصرية، وقرر أن يعيش ويأكل ويشرب ويلبس على الطريقة الإنجليزية، أن يتحول إلى الكائنات المسخ التى كان البريطانيون أنفسهم يسخرون منهم فى الهند والذين يتقمصون الحياة البريطانية»، يضيف عودة: «كان فهمى اكتشافا عبقريا عثر عليه كرومر، ووجد فيه ضالته التى ينشدها وهو الرجل الموفق النموذجى، وقرر أن يكون رئيس وزراء مصر الدائم على الأقل طالما ظل فخامته فى مصر، لم يكن يفصل فى أمر أو يوافق على صغيرة أو كبيرة قبل أن يصدق عليها اللورد».
أما «عباس الثانى» وفى مذكراته «عهدى» عن «دار الشروق - القاهرة» فيقول عنه: «بعد أن ثبته فى وظيفته خلال العام الأول من حكمه، ظهر لى وبكل أسف أنه مخلص للغاية للوكالة البريطانية، وكان الخديو الحقيقى بالنسبة إليه ليس أنا، ولكن اللورد كرومر، لقد عمد الاثنان إلى إبقائى فى حالة جهل تام بشؤون الدولة، وكانت طلباتى تظل بلا إجابة، وكان رئيس مجلس النظار يرد على أسئلتى المحددة بتقارير غير مضبوطة، كان نمط مصطفى فهمى يمثل الوزير المثالى الذى كان كرومر يرغب فيه».
استسلام «فهمى باشا» لسياسة الاحتلال، دفعت «عباس» إلى التفكير فى تغييره لكنه ظل ينتظر الفرصة، وتسربت شائعات حول ذلك مما أقلق كرومر، ويذكر عودة: «انطلقت شائعات تداولتها كل الأوساط والفئات والطبقات العليا والدنيا، وتقول بأن هناك حدثا جسيما على وشك الوقوع، وأن رئيس النظار سوف يقصى عن الحكم، ويستبدل برئيس نظار غير متفان فى الولاء وفى خدمة الاحتلال مثله، وإذا لم يقدم استقالته سوف يطرد من الحكم بما للخديو من شرعية»، ويضيف عودة: «أوفد كرومر، المستشار المالى «بالمر» إلى القصر ليستفسر، ولكن نفى الجميع علمهم بشىء من ذلك، ورجع المستشار مطمئنا».
جاءت الفرصة لعباس لينفذ رغبته، فى أواخر ديسمبر 1892، ويذكر «شفيق»: «انتهز الخديو فرصة إصابة فهمى بمرض خطير فى الرئتين، وتحدث مع «فخرى باشا» و«تيجران باشا» و«مظلوم باشا» و«دمرتينو باشا» و«محمود شكرى باشا» و«رولييه بك»، فرادى ومجتمعين، فاستقر الرأى على تغيير النظارة الفهمية، وترشيح تيجران باشا للنظارة الجديدة»، وتمنى عباس حسب مذكراته أن يحظى هذا الاختيار برضا الإنجليز، ويؤكد: «كنت أعرف أن تيجران مخلص تماما لمصر رغم كونه من أصل أرمنى».
أبلغ «عباس»، اللورد كرومر بهذا الترشيح، لكنه رفض قائلا: «تيجران باشا مسيحى، ويجب أن يكون رئيس النظار مسلما»، ووفقا لشفيق فإن الخديو استخلص من ذلك أنه «يستطيع أن يختار رئيس نظاره من المسلمين، دون استشارة العميد الإنجليزى»، وبهذا الوهم أرسل إلى «فهمى باشا» يطلب منه الاستقالة لاعتلال صحته، فأجاب فهمى بأنه من الأوفق أن يستشير كرومر قبل أن يقرر أمرا نهائيا، فاعتبر الخديو طبقا لمذكراته أن هذا تحديا له، فأرسل كتابا بإقالته يوم 15 يناير «مثل هذا اليوم» 1893، ثم أبلغ كرومر بقراره لتبدأ الأزمة فى الاشتعال، وتشهد فى يومها التالى تفاصيل جديدة.