لم يكن عبد الناصر زعيما عاديا، كان مقاتلا حمل السلاح بيده وقاتل الأعداء وسط قوات جيشه، إذ كان قائدا لكتيبة المشاة السادسة، ونائبا للقوات المصرية المسئولة عن تأمين منطقة الفلوجة شمال شرق غزة، والتى أضحت اليوم مدينة «كريات جات» الإسرائيلية.
وفى يوم 12 يوليو عام 1948 حاولت قوات الجيش المصرى استعادة مستعمرة «نجبا» الصهيونية، وهى المعركة التى انتهت بالهزيمة وقتها، ليتحول الهجوم بعدها إلى كارثة على القوات الموجودة هناك، وأصيب عبدالناصر فى هذه المعركة برصاصة كادت تودى بحياته، لكن القدر أسعفه إذ كانت إصابته غريبة، كما قال له الطبيب، وحكى هو نفسه فى مذكراته عن حرب فلسطين والتى كتبها أثناء الحصار الطويل فى الفلوجة، والذى بقى فيه ناصر وقواته محاصرا لأربعة أشهر، تحديدا منذ أكتوبر 1948 وحتى فبراير 1949.
ومن بين المذكرات التى تركها عبد الناصر بخط يده، وأعاد كتابتها محمد حسنين هيكل، اخترنا تلك اللحظات التى شارف فيها ناصر على الموت بعد إصابته فى معركة «النجباء» والتى تظهر عمق مشاعره، وطريقة تفكيره، وتحكى الكثير عن شخصيته.
فإلى نص ما كتبه الزعيم:
وبدأت معركة نجِبا، وكانت السرية فى مواقعها رابضة فى غير حاجة إلىّ، وقررت أن أعود إلى المعركة، والتقيت عند نهاية الطريق المكشوف بأركان حرب اللواء وكان قادماً ليستطلع الموقف، ودهش أركان حرب اللواء، فلم يكن يتصور أن الطريق إلى مركز تقاطع الطرق مكشوفاً إلى هذا الحد، ولم يكن هناك مفر من أن يركب حمالة مصفحة إذا أراد أن يعبر الطريق فى وضح النهار، وعدت معه فى الحمالة المصفحة، وقررنا العودة بعد قليل.
ثم وقعت حادثة من تلك الحوادث التى يتفنن القدر فى حبك مواقفها، سمعنا ضربًا قريبًا منا فى حقل الذرة، وقال لى أركان حرب اللواء: هذا الذى يضرب قريباً منا، هل يعتقد أن الدنيا خالية أمامه، ثم اقترح قائد اللواء أن ننزل إلى حقل الذرة بالحمالة المصفحة نطارد الضاربين عن قريب فى جوار مواقعنا، وهبطت الحمالة إلى حقل الذرة وتجولت فيه، وإذا السكون يسود، وإذا الطلقات التى كانت تئز من داخله تلوذ بالصمت.
وتجولنا هنا وهناك وسط حقل الذرة ولا حس ولا خبر، ولم يكن هناك ما يبرر أن نضيع وقتاً أكثر مما أضعنا فى حقل الذرة، فبدأت الحمالة تدور حول نفسها عائدة إلى الطريق، وكانت هناك لحظة خطيرة كنت أعمل حسابها وأحسست بهاتف خفى يحذرنى منها، هذه اللحظة هى الثانية التى تعود الحمالة فيها فتصعد بمقدمتها على الطريق المرتفع عن حقل الذرة، فإن سطح الحمالة كله فى هذه الثانية سيكون معرضاً مكشوفاً أمام حقل الذرة.
ولم يكن الهاتف الخفى، وهماً، وإن كنت لا أعرف على وجه التحقيق ما هو، فى نفس الثانية التى انكشف فيها سطح الحمالة وهى ترتفع إلى الطريق انطلقت المدافع الصامتة من حقل الذرة، وفجأة أحسست بشعور غريب فى صدرى، شىء ما صدمه صدمة خفيفة، والتفت فوجدت صدرى كله غارقاً بالدماء، وأدركت على الفور أننى أصبت، دخلت طلقة فى صدرى ناحية القلب، وأخرجت منديلى من جيبى أحاول أن أوقف النزيف، وروحى كلها يملؤها شعور غريب، لم أكن خائفاً، ولم أكن نادماً، ولم أكن حزيناً، كان كيانى كله سؤالاً واحداً: أهى النهاية؟ ولم أجزع لهذا السؤال، ولست أدرى لماذا ذكرت لأول مرة منذ جئت إلى فلسطين ابنتىّ هدى ومنى، وتذكرت بيتى، وتذكرت أسرتى، كيف سيكون وقع النبأ عليهم، وفجأة تذكرت جنودى أيضاً: كيف ستسير المعركة من غيرى، ماذا سيقول كل منهم عندما يصله الخبر؟.
وأضاف ناصر: كانت فى قلبى سكينة عجيبة، وكان فى روحى رضاء وصفاء، والتفت إلىّ أركان حرب اللواء الجالس بجوارى يحاول أن يصنع أى شىء وكل شىء من أجلى، وكانت الحمالة تجرى بى مسرعة إلى المستشفى ومرت أمام ذاكرتى، وعيناى مغمضتان وفى إحدى يدى سيجارة، وفى الثانية منديل أحاول أن أوقف به نزف الدم المتدفق من أثر رصاصة دخلت فيه، مرت مشاهد كثيرة من الماضى كأنها شريط من الرؤى المتدفقة بعضها وراء بعض، الأحلام والآمال، الطفولة والصبا والشباب، الأسرة والبيت وابنتاى تلعبان فى حجراته، تنظيم الضباط الأحرار والخطر المحيط به، تجربة الميدان ومتاعبها وأهوالها، وجنودنا وضباطنا والأعمال التى قاموا بها حتى الآن رغم كل ما أحاط بهم.
وتابع: نظرت إلى الطبيب الذى فحصنى بعد أن وصلت المستشفى فى دهشة، وأنا لا أكاد أصدقه فيما يقول، لقد كان تحليله لظروف الرصاصة التى أصابت صدرى أغرب من أن يقبل بسهولة، كنت قد دخلت عليه، وأنا واثق من موضع الإصابة، ومن نزيف الدم من صدرى، وأن الجرح نافذ، وأن الرصاصة وصلت إلى حدود القلب، ورفعت منديلى الغارق بالدماء، والذى كنت أحاول به أن أوقف الدم المتدفق من صدرى، ونظرت إلى الطبيب وقلت له: صارحنى بالحقيقة ولا تتردد.
وبدأ الطبيب يفحص الجرح وهو يهز رأسه بطريقة لم أستطع إدراك مدلولها، وبدأت أتعجل سماع رأيه، فقلت له: أهو جرح نافذ، وابتسم الطبيب وهو لا يزال يهز رأسه، ثم قال: اعذرنى، فإننا لا نرى مثل هذه الحالة كل يوم، ثم سألنى: هل تعرف ما حدث لك؟ لقد أصابتك رصاصة، ولكن بطريقة تختلف عن إصابة بقية الناس بالرصاص، إن الطلقة التى أصابتك اصطدمت بالجدار المصفح للحمالة التى كنت تركبها، غريب لا يحدث عادة للرصاص، لقد انفصلت الرصاصة نفسها عن غلافها المعدنى، وطاشت الرصاصة عنك، أمّا الذى دخل إلى صدرك فكان غلافها المعدنى فقط، واستلقيت أمام الطبيب على مائدة العمليات، وبدأت مشارطه تجرى حول مكان الإصابة، وبعد عشر دقائق قال لى وهو يناولنى قطعاً من شظايا النيكل الممزق: خذ، احتفظ بها.
أمسكت الشظايا الممزقة التى كانت مستقرة فى صدرى ووضعتها فى راحة يدى ورحت أتأملها، وحين سألت نفسى: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الأمر جرى على العكس، لو أن الرصاصة حينما اصطدمت بالجدار المصفح للحمالة وانفصلت، كان الغلاف هو الذى طاش وكانت الرصاصة نفسها هى التى اتجهت إلى صدرى؟ حين سألت نفسى هذا السؤال، وجدت روحى كلها أقرب ما تكون إلى الله وأنا أغمغم فى سرى: الحمد لله
ويكمل ناصر قصة هذه الواقعة قائلا: «أول ما خطر على ذهنى بعد أن عرفت حقيقة إصابتى، أننى لم آكل شيئاً منذ وقت طويل، وطلبت فنجاناً من الشاى الساخن، أخذت أحتسيه بهدوء، وعقلى مازال يدور حول الطريقة الغريبة التى نجوت منها، وأحسست بعد فنجان الشاى أننى أشعر بالجوع كما لم أشعر به أبداً، وطلبت طعاماً، وتلقيت صدمة حياتى لمّا قيل لى: ليس عندنا طعام، والمفروض أن تبعث إليك كتيبتك بطعامك إلى هنا، ونظرت إلى الذى قالها لى، وقلت له مستنكراً: كتيبتى! وعدت أكرر مرة أُخرى: كتيبتى، كتيبتى، ثم نظرت إليه أقول: أين هى كتيبتى؟.
وقفز إلى خيالى، وإلى أعصابى، فجأة إحساسى بكتيبتى، أين هى؟ لقد تركتها لآخر مرة منذ ساعات قليلة فى وضع لا تحسد عليه، تركتها مشتتة على مواقع مفتوحة مكشوفة، تركتها وقد أصدرت إليها قيادتنا أمراً بأن تدخل وسط العدو لكى تحاصره، وهززت رأسى والصورة الكاملة للحالة التى تركت عليها كتيبتى تملأ وجدانى، وعدت أقول وكأننى أكلم نفسى بصوت عال: نعم، هذا هو الذى فعلوه تماماً، قالوا لنا أدخلوا وسط العدو لكى تحاصروه، ولكن كيف نحاصره وهو يحيط بنا من كل جانب، لقد حدث ما كان يجب أن يحدث، حينما أصبحنا وسط قوات العدو، أصبحت قواته هى التى تحاصرنا وليس نحن الذين نحاصر قواته، كيف فكروا فى ذلك؟! وأفقت من خواطرى على صوت الذى طلبت منه الطعام فى مستشفى «اجملدل» وهو يقول: هيه، هل رتبت مع كتيبتك أن تبعث إليك بطعام؟ وقلت له، ونصف ابتسامة مغتصبة تمر على شفتى: ليت كتيبتى فى مواقعها التى هى فيها تجد من يبعث إليها بطعام.
ونظر إلىّ الرجل وقال لى: لا أفهمك، وقلت له وأنا أنهى المناقشة: ليست هذه مشكلة ملحة على أى حال، هل أجد عندك من يذهب إلى السوق لكى يشترى لى طعاماً، وحين عاد أحد الجنود من السوق بعد أن اشترى لى رغيفاً من الخبز وخمسة أقراص من الطعمية وعنقوداً من العنب، وجدت شهيتى قد ضاعت منى، ووجدت أن الطعام هو آخر ما كانت تطلبه نفسى، واستلقيت على سرير المستشفى منهك القوى، كان التعب المادى والمعنوى الذى عشناه فى الأيام الأخيرة قد بدأ يجتر عظامى وأعصابى، ومع أنى كنت بجسمى مستلقياً على الفراش، فإن عقلى لم يكن مستلقياً معى، لم أستطع أن أرغم تفكيرى على أن يمنح نفسه إغفاءة قصيرة تريحه بعد مجهود عنيف، كان خيالى هناك فى المواقع مع كتيبتنا، وكان هناك شىء يضغط على ضميرى.
ويستطرد ناصر فى مذكراته عن حرب فلسطين: «لقد كنت أركز العمل كله فى يدى كأركان حرب للكتيبة، فكيف الآن تجرى الأمور من غيرى؟ من الذى تقدم ليتحمل المسؤولية التى سقطت عن كتفى؟ وهتف بى خاطر: ماذا تفعل أنت هنا وهم وحدهم هناك، وهممت بأن أقوم، ولكنى لم أستطع أن أمضى فى المحاولة إلى آخرها، وفجأة أحسست بالمستشفى كله يموج بالحركة، بعد أن كنت منذ دقائق نزيله الوحيد، ولكنه فجأة بدأ يضيق بالوافدين عليه، وأدركت على الفور أن هذه هى نتائج المعركة الدائرة حول نجبا، وتركت فراشى ملهوفاً وأسرعت إلى الطواف بعنابر المستشفى كلها، كان المفروض أن يكون هناك إسعاف سريع فى مستشفى اجملدل، ولم يكن مفروضاً أن يبقى فيه بعد الإسعاف السريع إلاّ ذوو الإصابات الخفيفة، أمّا الحالات الخطرة فقد كانت بعد الإسعاف السريع ترحل فوراً إلى غزة، ويظهر أن المستشفى من كثرة الذين جاءوا إليه، لم يستطع حتى أن يمارس مهمة الإسعاف السريع، فبدأ يحول الواصلين إليه إلى غزة مباشرة بعد أن ضاق بالذين ملأوه فى ساعات قليلة، كان الحال حولى مروعاً، والملابس من حولى مصبوغة بلون الدم، وكانت هناك تأوهات، وآلام يحاول أصحابها أن يكبتوها ويتشجعوا، وكان هناك زميل سلاح اخترقت رصاصة خوذته فوق رأسه ومزقت فروته، وتأملت خوذته وإصابته، وأحسست أنى كنت أكثر من محظوظ، وكان هناك زميل من سلاح آخر أصيب بصدمة عصبية، كان شاباً وكنت أعرفه، فقد كان تلميذى يوم كنت مدرساً فى الكلية الحربية، وكان يهذى من صدمته بما لا يعى، وتصورت يوم جاءنا فى الكلية لأول مرة يرتدى الملابس المدنية، وذكرته فى مراحله المختلفة ونحن نصنع منه جندياً مقاتلاً، وها هو ذا يعيش التجربة التى كنا نعده لها.
ويكمل ناصر: «قضيت الليل كله ساهراً، لا يقترب النوم من عينى، كنت أفكر فيمن حولى وفى البعيدين عنى فى المعركة، وكنت أفكر فى الحرب نفسها، وأحسست من قلبى أنى أكره الحرب، ليست هذه الحرب التى كنا نخوضها بالذات، ولكن فكرة الحرب نفسها، أحسست أن الإنسانية لا تستحق شرف الحياة إذا لم تعمل بقلبها من أجل السلام.