واصل الضابط الألمانى كشف أسرار صفقة سلاح ألمانيا الغربية إلى إسرائيل، بعد حالة السُكر التى تمكنت منه أثناء العشاء الذى دعاه إليه الضابط محمد أحمد صادق، الملحق العسكرى المصرى فى ألمانيا، ووزير الحربية فيما بعد «راجع ذات يوم 29 يناير 2018».
يكشف «صادق» فى مذكراته بالأهرام، 10 أغسطس 2010، أنه بدأ يرتب أفكاره فور انصراف الضابط الألمانى، وفى صباح اليوم التالى طلب تحديد موعد عاجل مع مدير المخابرات الألمانية، بسبب معلومات مهمة وصلته من القاهرة، ويؤكد: «استقبلنى الرجل فى مكتبه، فأخبرته بأننى تسلمت رسالة من القاهرة تستفسر عن صفقة الأسلحة الألمانية لإسرائيل، والتى تضم مدافع ودبابات وسيارات وغواصات وزوارق، وصعق مدير المخابرات من هذه المعلومات، وطلب منى محاولة تهدئة الموقف، وحاول شرح أبعاد هذه القضية الطويلة والمعقدة، وفى خطوة تالية طلبت موعدًا مع وزير الدفاع الألمانى، وقلت له إن الرئيس عبدالناصر مستاء للغاية من الموقف الألمانى، وهو يريد توضيحًا، بعد أن نقلت له المعلومات التى قلتها لمدير المخابرات، وأضفت إليها المعلومات التى جاءت فى رده على ما ذكرته أثناء حديثى معه، وأخبرت المسؤول أن مصر ستتخذ موقفًا تجاه ألمانيا».
كان لتحركات «صادق» تأثير فى دوائر الحكم الألمانية، حيث يؤكد أنه فى مساء نفس يوم لقائه بمدير المخابرات ووزير الدفاع، أرسل إليه مستشار ألمانيا، لودفيج إيرهارد، زوج أخته، فى محاولة لمساومته على تهدئة الموقف، ومنع مصر من اتخاذ موقف متشدد، ووصل الأمر إلى عرض الرجل دفع 70 مليون مارك ألمانى لمصر، ويضيف: «من مكتبى الذى توجهت إليه فورًا، أرسلت تقريرًا إلى الرئيس عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر ووزير الخارجية».
يؤكد محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس» أن القاهرة وجدت أنه لا مفر من الدخول فى مواجهة ضد هدايا السلاح الألمانى لإسرائيل، وكان حتمًا أن تكون المواجهة متعددة الجبهات بسبب ملابسات القضية وظروفها، ووجهت دعوة إلى مستشار ألمانيا الشرقية، فالتر أولبرخت، عارفة مقدمًا أنها ستسحب العلاقات بين بون والقاهرة إلى حافة الأزمة، وكان حساب القاهرة أنه عند حافة الأزمة وبموازين متعادلة، هى «بون» وهدايا الأسلحة لإسرائيل، و«القاهرة» والدعوة القائمة لـ«أولبرخت»، يمكن الحديث من أجل الوصول إلى حل متوازن، وحدث ما توقعته «القاهرة» بالفعل من آثار لدعوة «أولبرخت»، وارتبكت حكومة ألمانيا الغربية فيما يمكن أن تفعله.
ويقدم «هيكل» تفاصيل هذا الارتباك فى كتابه «عبدالناصر والعالم»، فى فصل «عبدالناصر وإيرهارد.. صدام فى الظلام»، مشيرًا إلى حالة الغضب التى سادت فى بون منذ الإعلان يوم 27 يناير عن زيارة «أولبرخت»، وشمل الغضب اجتماعات واتصالات بالقاهرة يوم 30 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1965، وكان من مظاهره استدعاء سفير ألمانيا الغربية فى القاهرة، الدكتور جورج فيدير، الذى قابل «عبدالناصر» قبل مغادرته القاهرة، وحسب محضر هذه المقابلة الموجودة فى ملفات المخابرات العامة، ورئاسة مجلس الوزراء، ووزارة الخارجية، قال السفير: «يا سيادة الرئيس.. نحن لسنا مثلكم، أنتم أمة مستقلة.. أما ألمانيا فليست مستقلة».
رد «عبدالناصر»: «مع كل طاقتكم الاقتصادية تأتون إلينا، نحن الأمة النامية، وتقولون إنكم غير مستقلين.. إننا نحاول أن نقترض الأموال منكم، ونحاول الحصول على المهارات الفنية من عندكم، ثم تأتى مع ذلك وتبلغنى أنكم غير مستقلين، هذه حجة لن أقبل ولن أسلم بها»، وطلب السفير أن تقدر مصر والعرب ظروف ألمانيا، خاصة فيما يتعلق باليهود وإسرائيل، فرد «عبدالناصر»: «هذه الصفقة تشجيع صريح لإسرائيل على العدوان، وهو أمر لا تستطيع مصر ولا بقية الدول العربية أن تسكت عليه»، وتساءل السفير: إن بون قد تكون مستعدة لأن تفهم حساسية العرب فى هذا الصدد، لكن السؤال الذى يحرج الجميع هو: لماذا يكون الرد هو دعوة «أولبرخت» لزيارة مصر، فهو أمر غير مقبول على الإطلاق بالنسبة لألمانيا الغربية؟، وعقب «عبدالناصر» قائلًا: «وكذلك تسليح ألمانيا الغربية بالنسبة لنا هو الآخر غير مقبول على الإطلاق».
اللافت أن دعوة «أولبرخت» إلى القاهرة دخلت إلى القصة كـ«ورقة جوكر ألقيت على مائدة القمار»، بتعبير «هيكل»، ففى البدء أبلغ «عبدالناصر» فى رسالة ودية جدًا أنه مريض، وأن أطباءه أشاروا عليه بالذهاب إلى بلد دافئ للاستشفاء، واقترح بعض أطبائه أسوان، فوافق «عبدالناصر» لأن الغاية طبية وليست سياسية، ونُشر فى صحف ألمانيا الشرقية خبر صغير عن أن «أولبرخت» سيقضى عطلة فى مصر، فقامت قيامة الألمان الغربيين، ومع تنفيذ صفقة الأسلحة لإسرائيل، رد «عبدالناصر» بتغيير الزيارة من «الاستشفاء» إلى زيارة «رسمية»، وتفاعلت الأزمة فيما بعد حتى انتهت بقطع العلاقات مع ألمانيا الغربية.