ظهرت طائرات العدو الإسرائيلى فى سماء المنطقة فى الساعة الثانية وخمس وعشرين دقيقة بعد ظهر يوم 6 فبراير «مثل هذا اليوم» عام 1970، حسب كتاب «البحرية المصرية من محمد على إلى السادات»، للكاتب الصحفى عبده مباشر، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة»، مضيفًا: «فى هذه اللحظة كان القائد الرائد وفيق خفاجى الذى تسلم قيادة القطعة البحرية المينا قبل أيام يتناول طعام الغداء.. أبلغه الرجال برؤية الطائرات تقترب..خلال ثوان كان فوق ظهر المركب ليقوم بمهمته كقائد لها».
قاد «خفاجى» وطاقم المركب معركة فريدة فى تاريخ البحرية، قاتل عدوًا حشد طائراته انتقامًا من الانفجارات التى هزت ميناء إيلات قبيل ساعات «فجر الجمعة 6 فبراير»، حيث نجحت الضفادع البشرية المصرية فى تفجير وإغراق السفينة «بيت يم»، وإتلاف السفينة «بيت شيفع»، كما شهد نفس اليوم طبقًا لـ«مباشر»: «قبل الظهر كانت قاذفاتنا المقاتلة تمر من على ارتفاعات منخفضة، متجهة إلى الشرق لتضرب تجمعات العدو، ومراكز احتشاد جنوده ومدرعاته ومدفعيته فى منطقتى الشط وعيون موسى بالقطاع الجنوبى للقناة».
اختار العدو الكاسحة «المنيا» هدفًا لانتقامه، وهى بتأكيد «مباشر»: «قطعة بحرية صغيرة راسية فى ميناء الغردقة»، مضيفًا: «قام العدو باستطلاع فوق المنطقة الساعة الثامنة والنصف صباحًا بطائرتى ميراج، من ارتفاع 20 ألف متر، ولمدة عشر دقائق، وفى الثانية وخمس وعشرون دقيقة بدأت المعركة حتى السادسة مساء»، ويؤكد «مباشر» أن العدو كان يعلم حقيقة تسليح «المينا» كقطعة بحرية خفيفة، وما يمكنها حمله من الذخيرة، فتصور أن عمليته تستغرق دقائق فقط، وبدأت الطائرات هجومها من ارتفاعات منخفضة، تنقض على القطعة طائرتان فى أعقاب طائرتى «ميراج» أو «سوبر ميسير»، واستمر ذلك أكثر من ساعتين نجح خلالها «خفاجى» ورجاله فى إسقاط طائرتى «ميراج»، شوهد طيار إحداهما يقفز بالمظلة فوق جزيرة «الجفتون» فى وسط الخليج، وارتفعت أصوات رجال «المينا» مهللة مكبرة فرحة بسقوط الطائرتين: الله أكبر..الله أكبر.
ينقل «مباشر» أجزاء من تقرير رفعه أحد أبطال المعركة إلى قيادة القوات البحرية، وأكثر ما يلفت النظر فيه وصفه: «المركب كانت عاملة زى البسكليتة.. الحديد بتاع المركب حارب معانا»، وأمام المقاومة البطولية لـ«خفاجى» ورجاله، اضطر العدو إلى تغيير أسلوب هجومه، وذلك بقذف المركب من ارتفاعات عالية، حسب تأكيد «مباشر»، موضحًا: «ارتفعت الطائرات إلى ثمانية وعشرة آلاف متر، وبدأت تهاجم بأسلوب الساقية، وحتى الساعة الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة، واصلت المركب مناوراتها، ولم تتوقف عن صب نيرانها، مقيمة ساترًا من النيران بصفة مستمرة، وعندما نفدت ذخيرة المدافع عيار 37 مم، استمرت عيار 12.7 فى الإطلاق، وسقط أول شهيد».
يسجل تقرير أحد أبطال العملية دراما سقوط أول شهيد: «جت فيه شظية، وقع على المدفع، غطيناه ببطانية وقلنا الله أكبر، واستمرينا فى الضرب.. كان العريف بتاع المدفعية رجله الشمال مقطوعة، كانت مضروبة ومليانة دم، مش باينة من الدم، وساند على ركبته الشمال، ورجله اليمين على بدال المدفع، رفض أن يتوقف عن العمل.. المركب غاصت بالمؤخرة، والقومندان واقف على أعصابه زى الفولاذ، طوال الوقت على اتصال بكل الرجال، أوامره مستمرة وصافية 100%، الواحد مشفش قومندان بالطريقة دى قبل كده».
«نفدت ذخيرة المركب، فكان استخدام الدخان للإخفاء هو آخر الأسلحة، وفى هذه المرحلة سقط الشهيد الثانى.. طلع على مؤخرة السفينة قال للقومندان: أنا اتعورت يا فندم، فرد: قول الله أكبر، قال: الله أكبر.. طلع على الشذف وأذن أذان كامل ووقع على الأرض.. استشهد، مكناش عارفين إن الإصابة قاتلة». يؤكد «مباشر» أن «الموقف كان يحتاج إلى قرار آخر بعد نفاد الذخيرة، واستمرار هجوم العدو بقنابل زنة ألف رطل، فتشاور القومندان مع الضباط والمهندسين، كل فى اختصاصه، فأكدوا له: لا أمل، فقرر ترك المركب التى أصيبت فى المؤخرة والمقدمة والوسط كى تغرق، وبدأ الجميع فى المغادرة، وكان الضابط سمير على السطح ماسك بلطة فى إيده، وبيضرب فى حزمة عوامات وفلايك النجاة، فجه صاروخ مباشر أصاب رجله، ولم يتوقف عن العمل ورجله تنزف».
أسفرت المعركة عن استشهاد ضابط وأربعة جنود، وحين وصل أبطالها إلى الشاطئ استقبلهم اللواء بحرى محمود فهمى، قائد القوات البحرية، وأمر الرئيس جمال عبدالناصر بمنح القطعة البحرية وسام الجمهورية العسكرى. وحسب «مباشر»: «لأول مرة تمنح قطعة بحرية هذا الوسام، ومنح اسم ضابط المدفعية الشهيد حسن الخولى نجمة الشرف العسكرية، وقائد المركب النجمة العسكرية، والضباط نوط الواجب من الدرجة الأولى، والأفراد نوط الواجب من الدرجة الثانية، ومنح الشهداء من الأفراد نوط الواجب من الدرجة الأولى».
ويؤكد «مباشر»: احتاج سلاح الجو الإسرائيلى إلى 159 طائرة نفاثة سرعتها أعلى، وحمولتها من الذخائر أكبر، وإلى أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة لإغراق قطعة بحرية صغيرة «الكاسحة المنيا».