كانت الساعة الثالثة وعشرة دقائق مساء، حينما اقتيدت سيدة مكبلة فى سيارة مصفحة إلى المطار، تحاصرها عدة سيارات عسكرية، وإلى جوار سلم الطائرة «خطوط الشرق الأوسط - بوينج 737» نزلت وسط حشد من الجنود، وتأبط ذراعها ضابطان فلسطينيان سحباها إلى داخل الطائرة التى كان بداخلها أحد عشر ضابطا فلسطينيا، وأحد ممثلى منظمة الصليب الأحمر الدولى، وتوجهت إلى أنقرة بتركيا، ومنها إلى مطار «لارناكا» بقبرص، حيث جرت صفقة تبادلية مع منظمة التحرير الفلسطينية، سافرت بمقتضاها هذه السيدة إلى إسرائيل.
هكذا يذكر «فريد الفالوجى» الكاتب المتخصص فى شؤون الجاسوسية، وقائع تسليم الجاسوسة الأردنية الشهيرة «أمينة دواد المفتى» يوم 13 فبراير، مثل هذا اليوم عام 1980، وهى حسب كتابه «أمينة المفتى - أشهر جاسوسة عربية للموساد»: «أقذر جاسوسة عربية استقطبها الموساد»، مضيفا: «ولدت فى عمان عام 1939 لأسرة شركسية مسلمة، هاجرت إلى الأردن منذ سنوات طويلة، وتبوأت مراكز سياسية واجتماعية عالية، والدها تاجر مجوهرات ثرى، وعمها برتبة لواء فى البلاط الملكى، وأمها سيدة مثقفة تجيد أربع لغات وذات علاقات قوية بسيدات المجتمع الراقى، وهى أصغر أخواتها، ولها شقيقتان متزوجتان وثلاثة أشقاء آخرين، وتحظى بالدلال منذ طفولتها فشلت مبكرا فى قصة حب مع شاب فلسطينى الأصل اسمه بسام، فحصلت على الثانوية العامة بدرجات متوسطة، لتسافر إلى النمسا لاستكمال دراستها الجامعية، وفيها تعرفت على فتاة يهودية هى «ساردة بيراد»، ثم تعرفت على شقيقها الأكبر «موشيه» وحسب الفالوجى: «كان طيارا عسكريا برتبة نقيب، ويكبرها بسبع سنوات، مهووس بموتسارت وبيزيه، مولع بالشعر الأسود ونجلاوات الشرق»، ويؤكد «الفالوجى» أنها سلمته جسدها، وساعدها فى الحصول على شهادة دكتوراة مزورة فى «علم النفس المرضى»، ولما عادت إلى الأردن فى سبتمبر 1966، استقبلها الأهل بفخر وطالبوها بالزواج من ابن عمها، لكنها طلبت إمهالها حتى تفتح مستشفى خاص لها فى عمان، وأثناء خطوات الحصول على الترخيص، طالبتها وزارة الصحة بتصديقات جديدة على شهادتها العملية، فسافرت إلى «فيينا» بخوف شديد من فضحها بشهادتها المزورة.
مضت حياتها بفيينا مع «موشيه»، وفى سبتمبر 1967 أى بعد نكسة يونية بثلاثة أشهر، حدث تحول جوهرى بموافقتها على عرض «موشيه» الزواج، واعتنقت اليهودية فى معبد «شيمودت» بالنمسا لأجل ذلك، وصار اسمها «آنى موشيه بيراد».
فى صيف 1972 قرأت إعلانا صحفيا تطلب فيه إسرائيل متطوعين لجيشها من يهود أوروبا، فتقدمت هى وموشيه، وفى نوفمبر 1972 طارا إلى إسرائيل، والتحق «موشيه» بسلاح الجو برتبة رائد، وفى آخر يناير 1973 أسقطت المدفعية السورية طائرته واعتبر مفقودا، فعادت إلى فيينا، وفيها تم تجنيدها من الموساد، وتدريبها أربعة أشهر، وسافرت إلى بيروت، لتنفذ مهمة التسلل فى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية التى كانت تتخذ من لبنان مقرا، ونقطة انطلاق لعملياتها الفدائية داخل فلسطين المحتلة، وفى بيروت استأجرت شقة فى «الروشة»، ومنها بدأت عملها الشيطانى.
فى سبتمبر 1973 أهدتها الظروف فرصة التعرف على أرفع قيادات العمل السرى الفلسطينى فى طبيعته الأمنية والمخابراتية، وهو على حسن سلامة، رئيس الأمن والمخابرات التابعة لحركة فتح وقوات الحرس الداخلى، وحسب رواية «الفالوجى»، فإن «سلامة» قدم نفسه إليها على أنه رجل أعمال فلسطينى، وهى قدمت نفسها على أنها طبيبة أردنية متطوعة، وفتح هذا التعارف كل الأبواب أمامها، وانخرطت فى صفوف المقاومة كطبيبة متطوعة، وعبر ذلك تجسست بحرية مطلقة على القادة الفلسطينيين فى لبنان، لكن التعارف بسلامة كان أيضا سببا فى كشفها، ففى لقاء به سألته عن أولاده، فدهش لأنه لم يحدثها عنهم من قبل مطلقا، وبحاسته الأمنية العالية ملأه الشك تجاهها فقرر البحث عن ماضيها، وكلف رجاله فى عمان بذلك، لكن الرد جاء له، بأنها طبيبة درست فى النمسا، ولمشاحنات مستمرة مع أهلها قررت ألا تعود لعمان، فاطمأن لها وجدد الثقة فيها، لكن انقلابا حدث برسالة سرية وصلته من أحد رجاله فى أوروبا، تفيد بأن شابا فلسطينيا فى فرانكفورت قال إنه تقابل بفلسطينى مقيم فى فيينا، وأخبره بأن له صديقة نمساوية يهودية ماتت إثر تعاطيها جرعة زائدة من عقار مخدر، وأن لها شقيق طيار تزوج من فتاة عربية مسلمة، وهربت معه إلى إسرائيل خوفا من اكتشاف أمرها، وكانت تدرس الطب فى النمسا، وانتقلت إلى لبنان بعد أن أسقط السوريون طائرة زوجها.
كلف «سلامة» رجاله فورا بحصر الطبيبات المتطوعات والجامعات اللاتى حصلن على شهادتهن منها، وبعد ثلاثة أيام تلقى تقريرا بأن عددهن 37 طبيبة منهن أربعة فقط حصلن على شهادتهن من النمسا، فأمر بوضع الأربعة تحت المراقبة، وشعرت هى بذلك فحاولت الهرب إلى دمشق، لكن تم اقتيادها من «الباص» إلى السجن الذى بقيت فيه 1651 يوما، كانت نهايتها عملية تسليمها يوم 13 فبراير 1980.