سافر سعد زغلول باشا وزير المعارف إلى الفيوم، وفى مساء يوم وصوله تلقى خبر وفاة الزعيم الوطنى مصطفى كامل يوم 10 فبراير عام 1908، فلم يتأثر تأثرا كبيرا، حسب اعترافه فى الجزء الأول من مذكراته، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة» تحقيق: «الدكتور عبدالعظيم رمضان»، مضيفا: «بعد العشاء اجتمع بعض القضاة وأعضاء النيابة وناظر المدرسة، وجرى ذكر الفقيد، فلم أبد شيئا ضده، ولكن قلت: «سمعت أنه كان يحابى أحيانا لأغراض شخصية، ولم أرَ معارضا من السامعين، ولكن موافقتهم لم تكن شديدة ولا ظاهرة ظهورا بينا، وقلت أنه كان على علاته نابغا».
وفى طريق عودته إلى القاهرة من الفيوم، أعاره وكيل البوستة بعض الجرائد فقرأها وحسب قوله: «رأيتها تبكى بكاء مرا وفاة مصطفى كامل، وما وصلت مصر حتى علمت فوق ما قرأت، وأصبحت الناس لا حديث لها إلا الوفاة، وما أصاب الناس من الفزع الأكبر من هولها، وأكثر الناس من الإعجاب بها، ومن كان منهم لا يعبأ بالمتوفى حين حياته، اهتم لوفاته اهتماما كبيرا، وعد التفاف الناس حوله وبكاء الكثير منهم علامة على تنبه الشعور الوطنى، ودليلا على نمو الإحساس فى الناس، وذهبوا إلى أنه هو الذى أوجد هذا الشعور ونماه، وافتتحت «الجريدة» وهى من الجرائد المخالفة له التى كان بينها وبين جرائده خلافات شديدة اكتتابا لرفع تمثال له، تذكارا لشأنه، واكتتب الكثير فيه أول مرة بمبلغ أزيد من خمسمائة جنيه».
يواصل «سعد باشا» نقل حالة الأحزان التى عمت مصر: «سارت تلامذة جميع المدارس الثانوية والعالية والخصوصية فى الجنازة، كل مدرسة وراء علم مخصوص مجلل بالسواد، ومكتوب فيه اسمها، وساروا سكوتا كأنما على رؤوسهم الطير، وعلت أصوات الكثير بالبكاء والنحيب، وكان التلامذة يحملون بالتبادل النعش على الأعناق، ونظم كثير من الشعراء والكتاب مراثى فيه، وأقام الكثير من النوادى، والجمعيات والمساجد فى مصر والأرياف صلوات على روحه وتواردت الرسائل البرقية والبريدية على الجرائد المحالفة له والمعادية تنعيه وتصف حزن الناس عليه، وكثير من الأفراد أقاموا مآتم فى بيوتهم، واستقبلوا المعزين فيها، ولبس بعض السيدات لباس الحداد عليه، وكذلك حمل التلامذة من كل نوع علامة الحداد عليه، ولم يشذ عن ذلك تلميذات المدارس النسائية، وتوقفت معلمات المدارس السنية عن مشاهدة الألعاب السحرية فى اليوم التالى لتشييع الجنازة».
لا يخفى «سعد» تعجبه من هذه الحالة، وتحدث عنها صراحة مع قاسم أمين مؤلف كتاب «تحرير المرأة» وصديق سعد المقرب، وذلك حين ذهب إليه قاسم فى منزله، ويقول «سعد» فى مذكراته نصا: «قاسم بك أمين، من الذين لم يسلموا من لسان المتوفى، فقد حمل على كتابه فى «تحرير المرأة» حملة عواء، وانتقده أشد الانتقاد، لا اعتقادا بضرورة، ولكن تقربا من الجناب العالى، ونفاقا لذوى الأفكار المتأخرة والمتعصبين من الأمة، ومن الذين كانوا لغاية وفاته يعتقدون أنه نصاب خداع، ومنافق كذاب».
يضيف «سعد»: «قاسم بك هذا حضر إلى يوم الجمعة 14 فبراير «مثل هذا اليوم» 1908، فى اليوم الرابع من الوفاة، وكان أول ما بدأنى به: ماذا تقول فى وفاة مصطفى كامل؟ إن اهتمام الناس بها لدليل على تنبه عام، وحياة فى الناس جديدة، وهذه قيمة تستحق الإعجاب، وأنه معجب أيضا للطفى بك السيد الذى اقترح إقامة التمثال، ولم يبق عنده الآن شك فى حياة الأمة ونهضتها».
يعترف سعد باشا، بأنه استغرب أشد الاستغراب لما سمع هذا الكلام من صاحبه، ولم يدر السر فى هذا الانقلاب، ورد على «قاسم»: «نعلم أن الرجل ليس بشىء، وأنه نصاب»، فقال قاسم: «كذلك»، ولكن النتيجة التى ترتبت عليه تستحق الإعجاب»، فرد سعد: «إن هذا الشعور عظيم، ولكن لم أفهم أن يكون «لطفى» هو أول مقترح لهذا التذكار»، فرد قاسم: «إنه خيرا فعل، وإن وجود مثل هذا الأمر يقوى هذا الشعور ويزيده».
وفيما يبدو أن هذا النقاش لم يلقِ راحة عند قاسم أمين بدليل ما يذكره سعد عن أنه انتقل بالكلام إلى موضوع آخر يتعلق بحديثه مع «دنلوب» المستشار الإنجليزى لوزارة المعارف المصرية، ومع «جورست» وكيل وزارة الخارجية المصرية الذى صار «معتمد الاحتلال البريطانى فى مصر خلفا للورد كرومر عام 1907»، لكن قاسم لم يهتم مما أثر فى سعد: «انتقلت إلى حديثى مع دنلوب وجورست فى الزيادات، وقصصت عليه طرفا منه، فلم أجده «قاسم» اهتم به كما ينبغى، فتأسفت على كونى حكيت له»، وفى اليوم التالى كان النقاش أشد وأعنف بين سعد باشا وقاسم أمين حول مصطفى كامل.