دعا د.أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، إلى تدشين مشروع إنسانى عالمى متكامل من أجل نشر السلام فى كافة ربوع العالم والتأكيد على قيم المواطنة والتعايش المشترك، مؤكدا أنه لم تعد تكفى تلك الإدانات والبيانات التى تصدر من أهل الأديان ضد عمليات العنف والإرهاب وخطابات الكراهية.
وقال "الطيب" فى افتتاح الجولة الثالثة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب فى مدينة جنيف بسويسرا، إن الأديان جاءت لترسيخ السلام بين الناس، موضحًا أن الإرهاب لا يفرق بين متدين وملحد أو بين مسلم وغير مسلم، وأن المسلين أكثر من يدفعون ثمن هذا الإرهاب من دمائهم وأشلائهم.
وأضاف: "إننا نجتمع اليوم فى ظل ظروف حرجة يمر بها عالمنا وأزمة أخلاقية تعيشها الإنسانية جمعاء، موضحا أن معانى المحبة والسلام أصبحت استثناء من قاعدة كلية تحكم عالمنا اليوم تقوم على الأنانية والكراهية والصراع، فنحن لا نكاد نجد وطنًا واحدًا إلا ويشتاق إلى سلام دائم وعيش لاعنف فيه ولا إرهاب، ولكن من دواعى الحزن الشديد أن باتت أصابع الاتهام كلها تتوجه إلى الأديان رامية إياها بتهمة صنع هذا الإرهاب اللعين".
وشدد الإمام الأكبر على أن محاولات إفراد الإسلام بتهمة الإرهاب جعل المسلمين بين مطرقة الإرهاب وسندان الإسلاموفوبيا، مؤكدا أن الإسلام دين السلام، وأن يجب على مؤسسات الأديان وقادتها أن يعملوا يدا بيد من أجل السلام للبشرية جمعاء.
وأوضح فضيلته أنه لابد من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم وبينهم وبين المفكرين وأصحاب القرارات المصيرية قبل العمل على نشره بين البسطاء من الناس، داعيا إلى ترسيخ مبدأ المواطنة والذى من شأنه أن يسهم فى الخلاص من مشاكل دينية واجتماعية لا حصر لها سواء فى دول الشرق أو الغرب.
وإلى نص كلمته:
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة الحضور، الســـلام عليكم جميعًا؛
اسمحوا لى فى البداية أن أتقدم لكم بخالص الشكر والتقدير على الدعوة لهذا اللقاء الذى يجمعنا فى ظروف حرجة يمر بها عالمنا اليوم، وأزمة أخلاقية تعيشها الإنسانية جمعاء، حتى أصبحت معانى المحبة والسلام استثناءً من قاعدة كلية تحكم العالم هى الأنانية والكراهية والصراع. ولعلى لا أبالغ لوقلت أننا لا نكاد نجد الآن وطنًا من الأوطان إلا ويشتاق إلى سلام دائم وعيش لاعنف فيه ولا إرهاب،
وإنه لمن دواعى الحزن الشديد أن باتت أصابع الاتهام كلها تتوجه إلى الأديان رامية إياها بتهمة صنع هذا الإرهاب اللعين.
ولعل أصحاب هذا الاتهام لا يغفلون عن حقيقتين هامتين فى هذا الشأن، أولهما: أن الأديان إنما جاءت لترسيخ السلام بين الناس ورفع الظلم عن المظلوم والتأكيد على حرمة دم الإنسان، ويكفى أن الدين الذى أعتنقه وكما تعلمون اشتق اسمه من السلام فكان اسمه "الإسلام"، وأن السلام فى هذا الدين اسم من أسماء الله تعالى ومن اسمائه أيضا الرحمن الرحيم والرؤوف الودود اللطيف كما أن رسول الإسلام حدد من هو المسلم فقال: " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" أى من أذى لسانه وأذى يده.
والحقيقة الثانية أن الإرهاب الذى تتهم به الأديان عامة، والإسلام خاصة هو إرهاب لا يفرق بين متدين وملحد أو بين مسلم وغير مسلم.
وإن نظرة سريعة لضحايا الإرهاب لتؤكد على المسلمين أنفسهم هم أكثر من يدفعون ثمن هذا الإرهاب من دمائهم وأشلائهم، ليس فقط فى الشرق حيث يضرب الإرهاب دول العراق وباكستان ولبنان ومصر وليبيا وحيث تمزقت سوريا التى هدموا فيها أكثر من ألف مسجد حتى الآن، وقتل فيها أكثر من أربعمائة ألف قتيل، بل أوروبا التى سفكت فيها دماء المسلمين جنبا إلى جنب مع دماء الأوربيين فى حوادث هذا الإرهاب ورغم ذلك فإن الخسارة الكبرى التى أصيب بها المسلمون هى، فيما أعتقد، إلصاق هذا الإرهاب بدينهم وإفراده بهذه التهمة من بين سائر الأديان وترديد هذا الاتهام وتكراره حتى أثمر خطاب الكراهية الذى تبناه يمينيون متطرفون أهانوا المسلمين ونادوا بعزلها وتهجيرهم من أوطانهم وألحقوا الأذى بدور عبادتهم، فبات الأبرياء بين مطرقة الإرهاب وسندان الإسلاموفوبيا.
السادة الحضور،
لا أريد أن استرسل فى الدفاع عن الأديان ضد هذه التهمة الظالمة، فأنتم تعرفون ظلم هذه التهمة وزيفها ولكنى أريد أن أؤكد أن مسؤولية الأديان تجاه ترسيخ السلام ونشره فى ربوع الأرض أصبحت هى المسؤولية الأولى لقادة الأديان، بل والرسالة الأصيلة للدين التى يجب أن تطرق أسمع الناس صباح مساء، فما من دين إلا وَحَرّم دم الإنسان وماله وعرضه، ولا أعلم دينًا سماوياً سمح بِإراقة الدماء واغتيال الحقوق وترويع الامنين.
وفى اعتقادى أنه لن يعم السلام ولن تنعم به البشرية إن لم تعمل مؤسسات الأديان وقادتها يدًا بيد على صنع السلام،
وأكرر على مسامعكم ما نادى به الأزهر منذ أكثر من سبعين عاما وفى عواصم الغرب هنا أنه لابد أولًا من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم، وبينهم وبين المفكرين، وأصحاب القرارات المصيرية قبل العمل على نشره بين البسطاء من الناس.
السيدات والسادة،
فى الحقيقة لم تعد تكفى تلك الإدانات والبيانات التى تصدر من أهل الأديان ضد عمليات العنف والإرهاب وخطابات الكراهية، كأننا بهذا نعمل فى جزر منفصلة، وهو عمل لا يأتى إلا بنتائج ضعيفة ليس لها تأثير ملموس على أرض الواقع، بل يجب التنسيق من أجل عمل مشترك لمواجهة ظاهرة العنف ومن خلال مشروع عالمى يمس الواقع ويغيره، وتقوم عليه القيادات الدينية، عبر عديد من اللقاءات التى تبحث فى أسباب الظاهرة والوقوف على أهم الحلول المقترحة لمواجهتها مواجهة فكرية علمية واجتماعية وتربوية فاعلة،
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مؤسسة الأزهر استحدثت مادة جديدة فى مناهجها التعليمية لتوعية التلاميذ والطلاب بمخاطر التطرف والإرهاب وتحصينهم من الوقوع فى أى فكر يدعوا إلى العنف أو الانضمام إلى جماعات ترفع لافتة الإسلام وتنتهج العنف المسلح
وبموازاة ذلك فإنه لا مناص من أن تقوم الأديان بدورها فى توعية شباب العالم بقيمة الرحمة والرفق من خلال تنظيم ملتقيات شبابية دولية كبرى تعنى بتعريف المفاهيم الدينية وفى مقدمتها ترسيخ مفهوم المواطنة الذى لا يفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين أو العرق، ويستمد قوته من بالتعددية والحرية والمساواة وقبول الآخر واحترام معتقداته، وقد طبق رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم هذه المفاهيم وسبق بها دساتير العالم حين رسخ هذه المبادئ فينفوس مواطنى المدينة المنوره بمجرد أن هاجر إليها عندما كتب لهم أن "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب واليهود، أمة واحدة وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
هكذا رسخ النبى صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة بين المواطنين من المسلمين وغير المسلمين فى نموذج دولته الأولى وسجله فى كتاب معروفباسم وثيقة المدينة.
وفى هذا السياق نؤكد أن الإيمان بقيمة هذا المبدأ فيه الخلاص من مشاكل دينية واجتماعية لا حصر لها سواء فى دول الشرق أو فى دول الغرب.
هذا وقت أكدت شريعة الإسلام أن على المسلمين فى الشرق المسلم اعتبار المخالفين لهم من الديانات الأخرى مواطنين مشاركين فى بناء الوطن والدفاع عنه، وقد اشتهرت فيهم القاعدة الشرعية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
كما نادى الأزهر الشريف المواطنين المسلمين فى دول الغرب بأن يعتبروا أنفسهم جزءًا من مجتمعاتهم يندمجون فيها اندماجاً ايجابيا ويتفاعلون معها تفاعلا يحقق الرخاء والسلم المجتمعى.
ولا شك أن لرجال الدين هنا دورًا لا ينبغى أن يتجاهلوه فى كسر الحواجز النفسية التى بناها دعاة العنف والعزلة والكراهية بين المختلفين فى الاعتقاد، وذلك من خلال إبراز حقائق كثيرة يأتى فى مقدمتها أن هذا الاختلاف سنة الله وإرادته التى لا يمكن أبدًا أن تنشأ معها علاقة صراع أو عزلة أو حرب، فهذا تناقض بين حرية التعدد ومصادرة هذا الحق.
وفى نهاية كلمتى أتطلع وأنا بينكم هنا لتكثيف جهودنا معاً لمواجهة جميع المظاهر والممارسات التى تقف فى طريق نشر السلام والرحمة والعدل بين الناس فى الشرق والغرب، والخروج بمشروع إنسانى متكامل ينتهى بنا إلى التأثير الإيجابى على مجريات الأحداث من حولنا، علنا نقابل الله ولدينا من أعمال الخير ما يحول بيننا وبين عتابه وحسابه.
والسَّلامُ عَليكُم ورَحمَة الله وبركاته