"ظهر لدينا بعض من يمتحنون الناس ويشككونهم فى عقيدتهم بالسؤال عن مكان الله تعالى، ونحن ليس لدينا من العلم ما يكفى للرد عليهم أفيدونا بالجواب ثبتكم الله ووفقكم يا حفظة الدين والعلم".. كان هذا سؤال ورد إلى دار الإفتاء المصرية، لتفند بالأدلة العقلية والنقلية، بالتفصيل، فكان جواب الدار كالآتى: من ثوابت العقيدة عند المسلمين أن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان؛ لأن المكان والزمان مخلوقان، وتعالى الله سبحانه أن يحيط به شيء من خلقه؛ بل هو خالق كل شىء، وهو المحيط بكل شىء، وهذا الاعتقاد متفق عليه بين المسلمين لا ينكره منهم منكر، وقد عبر عن ذلك أهل العلم بقولهم: "كان الله ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ لم يتغير عما كان"، ومن عبارات السلف الصالح فى ذلك: ما نقله الإمام السبكى فى "الطبقات" عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: [من زعم أن الله فى شيء أو من شيء أو على شىء فقد أشرك؛ إذ لو كان فى شيء لكان محصورا، ولو كان على شىء لكان محمولا، ولو كان من شىء لكان محدثا].
وقيل ليحيى بن معاذ الرازى: "أخبرنا عن الله عز وجل، فقال: إله واحد، فقيل له: كيف هو؟ قال: ملك قادر، فقيل له: أين هو؟ فقال: بالمرصاد، فقال السائل: لم أسألك عن هذا؟ فقال: ما كان غير هذا كان صفة المخلوق، فأما صفته فما أخبرت عنه.
وسئل ذو النون المصرى رضى الله عنه عن قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾، فقال: [أثبت ذاته ونفى مكانه؛ فهو موجود بذاته، والأشياء بحكمته كما شاء]. ذكره القشيرى فى "الرسالة".
وأما ما ورد فى الكتاب والسنة من النصوص الدالة على علو الله عز وجل على خلقه فالمراد بها علو المكانة والشرف والهيمنة والقهر؛ لأنه تعالى منـزه عن مشابهة المخلوقين، وليست صفاته كصفاتهم، وليس فى صفة الخالق سبحانه ما يتعلق بصفة المخلوق من النقص، بل له جل وعلا من الصفات كمالها ومن الأسماء حسناها، وكل ما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك، والعجز عن درك الإدراك إدراك، والبحث فى كنه ذات الرب إشراك.
فإذا سألنا إنسان: أين الله؟ أجبناه بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شىء كما أخبر سبحانه عن نفسه فى كتابه العزيز؛ حيث قال تعالى: ﴿ليس كمثله شىء وهو السميع البصير).
ونخبره بأنه لا ينبغى له أن يتطرق ذهنه إلى التفكير فى ذات الله سبحانه وتعالى بما يقتضى الهيئة والصورة؛ فهذا خطر كبير يفضى إلى تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، ونخبره بأنه يجب علينا أن نتفكر فى دلائل قدرته سبحانه وتعالى وآيات عظمته فيزداد إيماننا به سبحانه.
أما عن السؤال عن الله سبحانه وتعالى بـ"أين" كمسألة عقائدية: فيؤمن المسلمون بأن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، ومعنى كونه تعالى واجب الوجود: أنه لا يجوز عليه العدم، فلا يقبل العدم لا أزلا ولا أبدا. وأن وجوده ذاتى ليس لعلة، بمعنى أن الغير ليس مؤثرا فى وجوده تعالى. فلا يعقل أن يؤثر فى وجوده وصفاته الزمان والمكان.
فإن قصد بهذا السؤال طلب معرفة الجهة والمكان لذات الله، والذى تقتضى إجابته إثبات الجهة والمكان لله سبحانه وتعالى، فلا يليق بالله أن يسأل عنه بـ"أين" بهذا المعنى؛ لأن الجهة والمكان من الأشياء النسبية الحادثة، بمعنى أننا حتى نصف شيئا بجهة معينة يقتضى أن تكون هذه الجهة بالنسبة إلى شيء آخر، فإذا قلنا مثلا: السماء فى جهة الفوق، فستكون جهة الفوقية بالنسبة للبشر، وجهة السفل بالنسبة للسماء التى تعلوها وهكذا، وما دام أن الجهة نسبية وحادثة فهى لا تليق بالله سبحانه وتعالى.
وعلى ذلك: فلو قال مسلم: (الله فى السماء) فإنه يحمل قوله على معنى أن الله له صفة العلو المطلق فى المكانة على خلقه؛ لأن الله تعالى منزه عن الحلول فى الأماكن، فهو سبحانه بكل شىء محيط، ولا يحيط به شيء، والقول بأن الله تعالى فى السماء معناه: علوه على خلقه لا أنه حال فيها حاشاه سبحانه وتعالى، أما من يعتقد أن الله تعالى فى السماء بمعنى أنها تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا أمر لا يجوز اعتقاده، ويجب تعليمه حينئذ الصواب من الخطأ فى ذلك وكشف الشبهة العالقة بذهنه.
وقد سأل النبى صلى الله عليه وآله وسلم جارية فقال لها: «أين الله؟» فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبها: «أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم، وليس فى ذلك إثبات المكان لله، وإنما ذلك لأن السماء قبلة الدعاء؛ لأن جهة العلو هى أشرف الجهات، لا أن الله محصور فيها، حاشاه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولذلك قال الإمام النووى رحمه الله تعالى فى "شرح صحيح مسلم" (5/ 24، ط. دار إحياء التراث العربي) وهو يتحدث عن مسلك التأويل: [كان المراد امتحانها؛ هل هى موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذى إذا دعاه الداعى استقبل السماء كما إذا صلى المصلى استقبل الكعبة؟ وليس ذلك لأنه منحصر فى السماء، كما أنه ليس منحصرا فى جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين. أو هى من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التى بين أيديهم. فلما قالت: فى السماء، علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان] اهـ.
فالمسلمون يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى قديم، أى إنهم يثبتون صفة القدم، وهو القدم الذاتى ويعنى عدم افتتاح الوجود، أو هو عدم الأولية للوجود، وهو ما استفيد من كتاب الله فى قوله تعالى: ﴿هو الأول﴾ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنت الأول فليس قبلك شيء» رواه مسلم؛ فصفة القدم تنفى أن يسبق وجوده وجود شيء قبله أو وجود شيء معه، لذا فهى تسلب معنى تقدم الخلق عليه.
وصفات الله سبحانه وتعالى كذلك قديمة فهى لا تتغير بحدوث الحوادث، وإثبات الجهة والمكان معناه يقتضى هذا التغير، بمعنى أن الله لم يكن متصفا بالعلو والفوقية من حيث الجهة إلا بعد أن خلق العالم، فقبل خلق العالم لم يكن فى جهة الفوق لعدم وجود ما هو فى جهة السفل، وبهذا تكون الفوقية المكانية أو العلو المكانى صفة حادثة نتجت عن حادث؛ ولذا فهى لا تصلح صفة لله سبحانه وتعالى.
كما يؤمن المسلمون بمخالفته سبحانه وتعالى للحوادث، وتعنى مخالفة الحوادث فى حقائقها، فهى تسلب الجرمية والعرضية والكلية والجزئية ولوازمها عنه تعالى، فلازم الجرمية التحيز، ولازم العرضية القيام بالغير، ولازم الكلية الكبر والتجزئة، ولازم الجزئية الصغر، إلى غير ذلك، فإذا ألقى الشيطان فى ذهن الإنسان: إذا لم يكن المولى جرما ولا عرضا ولا كلا ولا جزءا فما حقيقته، فقل فى ردك ذلك: لا يعلم الله إلا الله.
والأئمة من السلف والخلف رضى الله عنهم كلهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن الحوادث، وأنه لا يحده زمان ولا يحيط به مكان، وأنه لا يصح حمل الأينية هنا على ظاهرها بحال من الأحوال، حتى ورد عن سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه قوله: "العجز عن درك الإدراك إدراك، والبحث فى كنه ذات الرب إشراك"، وورد عنه قوله أيضا: "سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته" وورد عن سيدنا على كرم الله وجهه أنه قال: "لا يقال: (أين) لمن أين الأين؟ ولا يقال: (كيف) لمن كيف الكيف؟".. إلى غير ذلك من النصوص الواردة عن السلف الصالح فى تنزيه الله سبحانه وتعالى، وأهل السنة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على ذلك لا خلاف بينهم فيه.
قال القاضى عياض فيما نقله عنه الإمام النووى فى "شرحه على صحيح مسلم" (5/ 24): [لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى فى السماء كقوله تعالى: ﴿أأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض﴾ ونحوه ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم] اهـ.
وعليه: فلا يجوز وصف الله سبحانه وتعالى بالحوادث، فلا يوصف سبحانه بأنه فوق شيء أو فى جهة على معنى المكانية والجهة تعالى الله سبحانه عن ذلك.