بعد مجيء الإسلام، وبعد أن مكن الله لهذا الدين، كان لازما وحتما أن يكون لهذا الدين نظام اجتماعى عادل يحتكم إليه المجتمع، ويحتمى به من بطش الظالمين والمعتدين، فكان ثمرة الإسلام غلغل العدل فى نفوسهم فأظهروه فى أحكامهم، وفقهوا واقع الناس وملابسات الحوادث فأسهموا فى إعادة الحقوق إلى أصحابها فى أقرب وقت، فهم نماذج مضيئة لقضاة اليوم من أبناء الإسلام فى أى مكان، وعليهم الأخذ بسننهم والاقتداء بأحكامهم، ليتحقق العدل على أيديهم، ويسود الأمن والأمان للناس فى وجودهم، وتسعد الدنيا بهم.
من بين هؤلاء "معاذ ابن جبل"
ذلك الفتى الذى دخل الإسلام فى سن الــ18 سنة، والذى بعثه رسول إلله إلى اليمن قاضيا، كما يعد ابن جبل من الــ6 الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله، ومن السبعين حضروا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، والذى قال فيه الرسول الكريم " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"، كما كان من القليلين الذين يفتون فى عهد النبى صلى ألله عليه وسلم مع صغر سنه، فقال فيه النبى الكريم أيضا " استقرئـوا القرآن من أربعـة: من ابن مسعـود، وسالم مولى أبي حذيفـة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل".
كل هذه الصفات الحسنة ما جعلت الرسول صلوات ألله عليه يبعثه إلى اليمن قاضيا، حيث قال له قبل أن يرسله إلى اليمن " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"، قــال " أقضـي بكتاب الله "، فساله الرسول مرة آخرى " فإن لم تجد في كتاب الله"، فأجابه ابن جبل "فبسنة رسول الله"، فعاود صلى الله عليه وسلم وسأله "فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟"، فأسرع ابن جبل وأجب الرسول قائلا "اجتهد رأيي "، هنا ضرب رسول الله صدره قائلا "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".
كانت الصحابة يتعلمون من " معاذ ابن جبل " الكثير من أمر الدين، الفاروق عمرو ابن الخطاب قال عنه " لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني عنه ربي عز وجل ما حملك على ذلك، لقلت سمعت نبيك يقول إن العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان معاذ بين أيديهم، وقال عنه كذلك من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل.
ومن مواعِظِه رضي الله عنه أنه كان يقول: " وعن عبد الله بن سلمة قال: قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني، قال وهل أنت مطيعي قال: إني على طاعتك لحريص قال: صم وأفطر، وصل ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم.
كان ابن جبل من الناس كثيرة التهجد فى الليل، فكان يقول عند سجوه وهو يتهجد " اللهم نامت العيون وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطىء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلى يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد".
توفي معاذ بن جبل، فى السنة الثامنة عشر للهجرة، مصابا بمرض الطاعون في الشام فى الأردن، عن عمر يناهز الــ38 سنة، كان "طاعون عمواس" انتشر في الشام، مما أدى إلى العديد من المسلمين، حيث قيل أنه توفى فى ذلك العام بسبب هذا الطاعون كما يقرب من 30 الف مسلم، فكان ابن جبل يقول " إنّها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم، اللّهم اجعل على آل معاذ نصيبهم من هذه الرحمة ".