في عالم الجريمة كل شيء مباح، اتهام وتخفي وإلصاق التهم بآخرين، ففي النهاية خلف القضبان كل شيء يمكن فعله، لكن ورغم هذا فالحقيقة أيضاً لا يمكن إخفاؤها مهما طال الزمان، ومهما كان فاعلها فلابد أن تأتي اللحظة الفارقة التي تكشف فيها الحقائق، ويعود الحق لأصحابه، "انفراد" يقدم خلال شهر رمضان حلقات متتالية تحت عنوان " غرائب خلف القضبان" من وقائع كتاب " أغرب القضايا" للمستشار بهاء أبو شقة.
الحلقة الخامسة عشر
انتهى الجزء الثانى من القضية بقرار المحكمة ببراءة الأخ الأصغر من قتل عمه كما زعمت زوجة العم وشهد شقيقه الأكبر.
لكن باب الحقيقة ما زال موصوداً حتى الآن.. مغلقاً عليها .. وبات التساؤل الذى يحير بال الجميع ويقلق فكرهم.. من القاتل إذاً؟.. ما الدافع الذى حدا به إلى قتل هذا الشيخ الطاهر النقى الذى لقى ربه وهو ساجد؟.
ما أقسى على ضمير الحقيقة وذمة العدالة أن يزال القاتل حراً طليقاً.. وبات من المتيقن فى ضميرى أن وراء مصرع المجنى عليه سراً تخفيه هذه السيدة، ولكن ما هذا السر.. هل بعد أن أصبحت تحمل جنيناً منه ستكون بمولده هى المهيمنة والمسيطرة على ثروة زوجها، يكمن هذا السر بعد أن أصبحت هى المستفيدة وواضعة اليد على كل أملاك زوجها بلا منازع، ولكن ما الدليل.
مرت الأيام والشهور وصورة أحداث هذه القضية بالذات لا تفارق فكرى.. وأنا اتساءل ترى من القاتل؟.. هل ستتركه عدالة السماء يرتع فى الأرض فساداً وهو القاتل الأشر.
لم تمض على حكم البراءة الذى حصلت عليه بالنسبة لأشرف حتى حضر إلى مكتبر وطلب منى أن أترافع فى قضية جديدة.
نظر إليه مستغرباً وأنا أتساءل: عن ما هية هذه القضية ونوع التهمة فيها؟
- فابتسم ابتسامة لا تخلو من الحزن والحسرة وهو يقول:
- أخويا سمير المتهم.
فسألته فى شوق عن التهمة الموجهة إليه..
- فقال والأسى يتزايد فى داخله.." لقد قتل زوجة عمه وطفلها الصغير"..
وقدم لى "دوسيه" القضية، وقرأته على الفور والدهشة والفضول يملأ رأسى.. كانت أحداثها أكثر ضراوة وأسى من أحداث القضية الأولى، فقد قتل "سمير" زوجة عمه وابنها الطفل الصغير، واعترف اعترافاً تفصيلياً وصريحاً وواضحاً بأنه القاتل.. وأنه آثم لا غفران لإثمه.. ومذنب أمام نفسه.. وأمام عمه.. وأمام الأسرة والقانون.. ذنوباً لا تطهرها مياه المحيطات.
اعترفت أنه سار فى طريق الغواية.. تعانق مع الشيطان عندما أحب هذه السيدة..إنه العشق الذى يفهم خطأ بأنه حب.. عشق الجسد المجرد البعيد كل البعد عن الحب بمعانيه السامية المقدية.. عشق فيها شهوة الجسد وبات أسيراً له لا يستطيع أن يبتعد عنه، وهداه فكره الهزيل وقاده خياله العليل كى بجسدها إلى جواره- أن يزج بها فى طريق عمه، وهو يعلم أن قلبه ما زال بكراً خصباً ظمآنا تواقاً إلى من يرويه، وزين له الزواج منها وباركه ورعاه وأوهمه أن ذلك عرفانأ لجميله وإسعاداً لنفسه التى عاشت مع الحرمان.. وألقى فى روع عمه تحدى أخيه لهذه الزيجة، ومرت الأيام وعمه "زوج على ورق" أما هو الزوج الفعلى.
وأضاف فى اعترافه: فى ذات ليلة فاجاتنى بأنها حامل، لقد حدث ما لم يكن فى الخاطر أو الحسبان.. ما لم يكن متوقعاً.. فعمى عقيم.. وهو يعلم ذلك جيداً..إن الجنين الذى يدُب فى أحشائها ابنى.. ما العمل؟ لا بد من التصرف فى أسرع وقت قبل أن ينكشف الأمر ويضيع كل شىء.. طلبت منها التخلص من الجنين منعاً للفضيحة، ولكنها رفضت فأفصحت أنها تعمدت ذلك حتى تستولى على كافة ثروته ونعيش بعدها معاً فى ثراء ورخاء وحب.
وإزاء إصراراها واقتناعى بفكرها هدانى شيطانى إلى ضرورة قتل العم.. كنت مسلوب الفكر.. منعدم الإرادة..أسير لملذاتى والمتعة الحرام معها.. زينت لى فكرة الجريمة كى يخلو الجو لنا سوياً ونستولى على ثروة العم ونعيش بلا منغص.
تم تدبير جريمة قتل العم..أنا الذى قتلته وضربته على رأسه وهو يصلى، ولكن تصوير الشاهدة فى الحادث قد تبدد أمام تفنيد الدفاع وإثبات براءة أخى "أشرف".
وولدت طفلاً هو ابنى، وما كان احد يعلم بهذا السر غير أنا وهى.. فقد كان أخى الأصغر لا يعلم أن عمى عقيم، كنت أنا الوحيد الذى لازمه أثناء كشف الطبيب عليه وإجراء التحليلات التى أثبتت عقمه.. تمرغت معها فى الحرام.. كانت شيطانة بكل معنى الكلمة.. بل إن كلمة شيطانة تتضائل أمام أفعالها.
وأكمل فى اعترافات، وكان حديثه يقتر دماً وهو يروى كيف هانت عليه حياة عمه الذى رباه.. قتله من أجلها.. بلغت به الندالة والحطة منتهاها عندما هانت عليه روح أخيه.. التى كانت قاب قوسين أو ادنى من حبل المشنقة بل وشهد ضده.
ومما زاد من حسرته وندمه بعد فوات الأوان أنها أنسته زوجته..أهملها بل وأهمل ابنه الصغير.. الذى مرض وتركه دون علاج فريسة لمرض لالتهاب بسيط فى الشعب الهوائية تفاقم بسبب عدم علاجه وتطور لالتهاب رئوى حاد قضى على حياته.
لكن هل وقف إجرامها وفجرها عند هذا الحد؟
لقد اكتشف – فجأة – أن الأفعى لا تكتفى بلدغة واحدةن فقد وجدت فريسة أخرى.. اكتشف أنها على علاقة برجل أخر تجد متعتها معه بعد أن بدأت تبتعد تدريجياً وتغيب عن المسكن فى فترات طويلة، وتعود فى أوقات متأخرة من الليل.. ورائحة الخمر تفوح من فمها..أحس بأنها طردته من حياتها ولأخر أمر راوده راقبها عن بعد. فأيقن الحقيقة التى قتلته وأفاق من الوهم الذى عاش فيه..
انتفض من بئر خيانتها التى تسرى فى عروقها مسرى الدم.. أحس بانها تدبر له أمرًا للخلاص منه.. واجهها بخيانتها، بحبهما الذى حكمت عليه بالإعدام.. لكنها لم تعبأ لمشاعره..لأحاسيسه التى حطمتها.. لمستقبله الذى أحس بأنه لا وجود له بدونها. فهددته بانه إن لم يبتعد عن طريق حياتها وواصل مطاردته لها فأنها سوف تبلغ النيابة عن أنه هو قاتل عمه.
تمالك نفسه وهو يعض على بنانه من الندم ويقول:" هنا أفقت من غفوتى.. استيقظت من نومى وصحا ضميرى.. صدقونى .. كان عندى من المثل والمبادىء والقيم قبل أن أعرفها ولكنها قبرت كل ذلك فى جسدها اللعين.. كانت شيطانة أغوتنى.. قررت وصممت أن أطهر نفسى واكفر ذنوبى وأثأر لعمى وأخى ونفسى وابنى الذى كانت سبباً فى موته بسببها، ونفسى التى دنستها.. لابد من قتلها وقتل طفل الخطيئة معها.. وبالفعل نفذت ذلك .. أحسست بان نفسى قد اطمأنت وضميرى قد استراح.. والأن افعلوا بى ما شئتم.ز اعدمونى.. فإن الإعدام أقل جزاء لمن يفتح الشيطان باباً فى عقله وفكره.
ولم تمض أيام حتى حضر "أشرف" وقدم لى رسالة طالباً منى قرائتها.ز رسالة من شقيقه "سمير" .. أخر كلمات كتبها قبل أن ينتحر فى السجن.. أنهى حياته بنفسه بعد ان اعتذر وطلب الصفح من الجميع مقرراً أنه طهر الأسرة الشريفة من دنس أفعاله وطلب من الله الغفران، وأنه لم يطق انتظار حبل المشنقة.. فأثر على أن يعجل بحياته وقد باتت بلا ثمن ولا معنى.