قضت المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار الدكتور محمد مسعود رئيس مجلس الدولة، اليوم السبت، بإلزام الحكومة بتعويض ورثة التاجرة "نادية قاسم" بأن تؤدى لها تعويضاً مقداره مائة ألف جنيه عما لحقها من أضرار، نتيجة قرارات الحكومة بتقييد تداول تجارة القطن، والحد من تصديره، وألزمت الحكومة بالمصروفات.
صدر الحكم برئاسة المستشار الدكتور محمد مسعود رئيس مجلس الدولة، وعضوية المستشارين أحمد الشاذلى، والدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، وسامى درويش، ومبروك على نواب رئيس مجلس الدولة .
وأكدت المحكمة فى حيثيات حكمها، أنه لا يجوز للحكومة أن تضع قيوداً على ممارسة تجارة القطن لأنها أداة أدنى من الدستور الذى ألزمها بالتشجيع على التصدير لا تقييده، واستعرضت تاريخ القطن المصرى وتأمر الحكومة بتعويض أكبر تاجرة للقطن بمائة ألف جنيه أُكرهتها على بيع أقطانها بالأسعار التحكمية وقيدت التصدير، وأكدت على أن الحكومة عمدت إلى إفراغ قانون تنظيم تجارة القطن فى الداخل من مضونه بتقرير قيود قاسية على تداوله أقسى من تلك التى كبلت بها تلك التجارة فى فترة التسعير الجبرى، وأن المشرع ترك تجارة القطن زهراً وشعراً بيعاً وشراءً وحلجاً للتداول الحر بالأسواق، ولم يقرن ذلك بقيد سوى فى حالة بيع الأقطان الشعر للدولة بالشروط والأسعار التى يحددها وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية.
وأضافت أن الحكومة أصدرت عدة قرارات لمعالجة العجز فى محصول القطن وتخبطت فى الإحاطة بحجمه وحاجة السوق الداخلى، وكأن القطن لم يزرع فى مصر، فجاءت قراراتها مخالفة للقانون ومتناقضة مع ما تبناه الدستور من تشجيع التصدير، كما أكدت على أن الدولة القانونية تتقيد فى ممارستها لسلطاتها بقواعد قانونية تعلو عليها، وتردها على أعقابها إن هى جاوزتها، وهذه السلطات أيا كان القائمون عليها لا تعتبر امتيازاً شخصياً لمن يتولونها، ولا هى من صنعهم بل أسستها إرادة الجماهير فى تجمعاتها على امتداد الوطن، وضبطتها بقواعد آمرة لا يجوز النزول عنها ولا تأتيها إلا فى الحدود التى رسمها الدستور، وبما يرعى مصالح مجتمعها.
وقالت المحكمة إنه بالرجوع إلى الجذور التاريخية فقد مر تسويق القطن المصرى فى تاريخه الطويل بثلاثة مراحل تسويقية هى:
المرحلة الأولى: مرحلة التسويق فى ظل النظام الرأسمالى الحر، وهى تشمل الفترة من بداية إنشاء بورصة عقود القطن بالإسكندرية عام 1861،وكانت أول بورصة لعقود القطن فى العالم حتى عام 1952.
المرحلة الثانية: مرحلة تسويق القطن فى ظل النظام الموجه، وقد بدأت مع إغلاق بورصة عقود القطن بالإسكندرية نهائيا فى يوليو 1961 أى بعد قرن من إنشائها وذلك حتى يوليو من عام 1994.
المرحلة الثالثة: مرحلة التسويق الحر وفقا لآليات العرض والطلب وذلك من أغسطس 1994 وحتى الآن، حيث صدر لهذا الغرض ثلاثة قوانين رئيسية هى: القانون رقم 210 لسنة 1994 ولائحته التنفيذية الصادرة بالقرار الوزارى رقم 389 لسنة 1994 والخاص بتنظيم تجارة القطن فى الداخل. والقانون رقم 141 لسنة 1994 ولائحته التنفيذية الصادرة بالقرار الوزارى رقم 388 لسنة 1994 بإنشاء بورصة البضاعة الحاضرة للأقطان ( بورصة مينا البصل )، والقانون رقم 211 لسنة 1994 ولائحته التنفيذية الصادرة بالقرار الوزارى رقم 507 لسنة 1994 الخاص باتحاد مصدرى الأقطان.
وأضافت المحكمة أن المرحلة الثالثة من مراحل تسويق القطن، وهى مرحلة التسويق الحر تمشياً مع سياسة التحرير الاقتصادى جاءت بعد فترة طويلة من نظام الاقتصاد الموجه، وأن الدولة استجابة منها لمتغيرات اقتصادية عالمية قد انتهجت نهجاً اقتصادياً يشايع تلك الاتجاهات للتحول من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاديات السوق والعمل فى ضوء آلياته والانفراط من سياسة التسعير الجبرى، فجاءت القوانين الصادرة لتنظيم التجارة فى حقبة التسعينات مققنة لهذا الاتجاه ومنها قانون تنظيم تجارة القطن فى الداخل الصادر بالقانون رقم 210 لسنة 1994، والتى أفصحت مذكرته الإيضاحية عن أنه فى ظل اتجاه الدولة الحالى إلى تشجيع حرية التجارة والخضوع لنظام آليات السوق، والاعتماد على الأفراد فى تسيير معظم الأنشطة الاقتصادية فى الدولة وتخفيفاً عن كاهلها .
وأكدت المحكمة أن لما كان القطن أحد دعائم الاقتصاد فى مصر فقد حفل باهتمام خاص فأفرد المشرع لتنظيم تجارة القطن فى الداخل تشريعاً مستقلاً روعى فيه طبيعة هذه التجارة وخطورتها وما تتطلبه من ضوابط ونظم متعارف عليها عالمياً متمثلاً فى القانون رقم 210 لسنة 1994.
وأشارت المحكمة إلى أنه نسق هذا السياق جاءت نصوص القانون رقم 210 لسنة 1994 فى شأن إصدار قانون تنظيم تجارة القطن فى الداخل معبرة عن ذلك التوجه ويبين من جماع ما تضمنته من نصوص قانونية مؤيدة بالمذكرة الإيضاحية أن المشرع وهو فى سبيل تنظيم تجارة القطن بالداخل راعى طبيعة هذه التجارة وخطورتها وما تتطلبها من ضوابط ونظم متعارف عليها عالمياً وبذلك يتنزه فى تحريره لهذه التجارة وإخضاعها لآليات السوق عن إغفاله لتلك الاعتبارات، ويكون قد أراد وفق صحيح قصده وسليم نصوصه ترك تجارة القطن زهراً وشعراً بيعاً وشراءً وحلجاً للتداول الحر بالأسواق، ولم يقرن ذلك بقيد سوى فى حالة بيع الأقطان الشعر للدولة فجعل ذلك مرهون بالشروط والأسعار التى يحددها وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية وجعل من اللجنة العامة المشكلة لتنظيم تجارة القطن مراقبة تنفيذ أحكام ذلك القانون ولائحته التنفيذية، وفى ضوء ذلك لها اقتراح اللوائح الداخلية لتنظيم العمليات بالأسواق المحلية و إصدار التوصيات المتعلقة بالجوانب المختلفة المرتبطة بالسياسية القطنية ومتابعة تنفيذها،وفى قيامها بذلك تلتزم أحكام القانون رقم 210 لسنة 1994 فلا يكون لها أو لغيرها وضع قيود على هذه التجارة لم يأت بها ذلك القانون بحسبان أنه لا يجوز لأداة أدنى أن تخالف ما تسنه أداة أعلى وإلا عد ذلك مخالفة صريحة لأحكامه ولبنيان نظام التدرج التشريعى وعلو أداته الأعلى، وهو ما لا يجوز إلا بذات الأداة التشريعية أى بقانون.
وأوضحت المحكمة أن المشرع الدستورى جعل من النظام الاقتصادى هدفاً وغاية ترمى إلى تحقيق الرخاء فى البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقى للاقتصاد القومى، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر، وألزم النظام الاقتصادى ذاته بمعايير الشفافية والحوكمة، ودعم محاور التنافسية وتشجيع الاستثمار، والنمو المتوازن جغرافياً وقطاعياً وبيئياً، ومنع الممارسات الاحتكارية، مع مراعاة الاتزان المالى والتجارى والنظام الضريبى العادل، وضبط آليات السوق، وكفالة الأنواع المختلفة للملكية، والتوازن بين مصالح الأطراف المختلفة، بما يحفظ حقوق العاملين وحماية المستهلك، وألزم النظام الاقتصادى كذلك اجتماعياً بضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية، ومن ناحية أخرى جعل من الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية والمعلوماتية مقومات أساسية للاقتصاد الوطنى، وألزم الدولة بحمايتها، وزيادة تنافسيتها، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمار، والعمل على زيادة الإنتاج، وتشجيع التصدير، وتنظيم الاستيراد من خلال تحفيز القطاع الخاص لأداء مسئوليته الاجتماعية فى خدمة الاقتصاد الوطنى والمجتمع.
وأضافت المحكمة أن الثابت من الأوراق أن وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية قد أصدر قراره رقم 457 لسنة 1995 فى 30/7/1995 تضمن الحظر على المتعاملين فى الموسم القطنى 95/96 الخاضعين للقانون رقم 210 لسنة 1994 سالف البيان الاحتفاظ بأى كمية من الأقطان الشعر المحلوجة غير المرتبط عليها للتصدير أو المغازل المحلية بعقود موثقة ومسجلة بالجهات الرسمية المختصة مدة تزيد على ثلاثين يوماً من تاريخ حلجها ورتب على مخالفة هذا الحظر إحالة المخالفين إلى مجالس التأديب وتوقيع العقوبات الواردة فى المادة 43 من القانون رقم 210 لسنة 1994 بشأنهم - والتى تبدأ بالإنذار وتنتهى إلى الشطب من سجل التجار المقيدين - أو اتخاذ إجراءات تقديمهم للمحاكمة طبقا للمادة 47 منه وإخطار وزارة الزراعة لسحب تراخيص المحالج المخالفة، وقد اتبعه بقرار أخر برقم 549 لسنة 1995 فى28/8/1995 حدد بموجبه الحد الأدنى لأسعار الأقطان الزهر موسم 95/1996 للمنتجين الذين يرغبون اختيارياً فى توريد أقطانهم لحلقات التسويق، وهى بالنسبة للقطن صنف جيزة 75 معدل تصافى 115% سعر القنطار الزهر 500 جنيه، ولم تقف الإجراءات عند هذا الحد، وإنما تبع ذلك صدور تعليمات من كل من وزير الزراعة وقطاع الأعمال العام فى21/9/1995 – بداية موسم القطن – بتأجيل الارتباط على تصدير الأقطان وبموجب هذه التعليمات بحظر التصدير قررت اللجنة العامة لتنظيم تجارة القطن فى الداخل حظر التصدير، وقد ترتب على ذلك التعديل فى بند الأسعار الوارد بالبند الرابع من نموذج عقد بيع الأقطان والمنصوص عليه فى المادة الرابعة من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 210 لسنة 1994 من المحاسبة على أساس أسعار التصدير المعلنة إلى المحاسبة على الأسعار الإجبارية التى تم ترخيصها فى ضوء حظر التصدير.
واستطردت المحكمة أنه بإمعان النظر فيما تقدم يبين جلياً أن جهة الإدارة قد عمدت إلى إفراغ القانون رقم 210 لسنة 1994 فى شأن إصدار قانون تنظيم تجارة القطن فى الداخل من مضونه وفحواه وتجريده من غاياته ومبناه، وذلك بتقرير قيود قاسية على تداول تجارة القطن خلال الموسم 95/1996 قد تكون أقسى من تلك القيود التى كبلت بها تلك التجارة فى فترة التسعير الجبرى قبل صدور القانون رقم 210 لسنة 1994 من حظر الاحتفاظ بالأقطان ، إلا لمدة معينة وحظر تصديرها وتحديد سعر إجبارى لها، وكل ذلك بالمخالفة الصريحة لأحكام القانون رقم 210 لسنة 1994 ولم يكن رائدها فى ذلك سوى مصلحة بعض المغازل الحكومية التى أعجزتها ندرة السيولة المالية لها عن توفير احتياجاتها من الأقطان اللازمة لها دون سبب أخر فى ضوء زيادة الإنتاجية فى ذلك العام عما كان يتوقع لها وترحيل فائض ضخم من الأقطان إلى العام 96/97، وبذلك لم يكن الباعث على إصدار جهة الإدارة لتلك القرارات والتعليمات العجز فى محصول القطن وحماية المصلحة العامة، وإنما كان ذلك منها بسبب تخبطها البين فى الإحاطة بحجم محصول القطن وحاجة السوق الداخلى، وكأن القطن لم يزرع فى مصر سوى هذا العام فقط فجاءت قراراتها وتعليماتها مخالفة ليس فقط للقانون رقم 210 لسنة 1994 ومتناقضة مع ما تبناه الدستور من تشجيع التصدير، وإنما خالفت بها أحكام القانون رقم 118 لسنة 1975 بشأن قانون الاستيراد والتصدير الذى أعطى الاختصاص بحظر أو تقييد تصدير السلع لوزير التجارة ثم اُلغى هذا الحظر كلية بموجب قراره 396 لسنة 1994 ومن ثم يضحى الخطأ ثابتاً فى حق الجهة الإدارية.
كما أوضحت المحكمة أنه عن الأضرار التى لحقت بمورثة الطاعنين فى الطعن الثانى المرحومة /نادية قاسم، فإن الثابت من الأوراق أن المغفور لها كانت من كبار تجار القطن الخاضعين للقانون رقم 210 لسنة 1994 فى العام 95/1996 إذ بلغت تجارتها من القطن الشعر الناتج والصادر والرصيد إلى تاريخ 14/12/1995 : 40 ,9639 قنطار وإجمالى الشعر الناتج: 32,3856 قنطار و إجمالى الشعر الصادر : 080, 3083 الرصيد يوم 13/12/1995 , وقد مُنعت بسبب القرارات والتعليمات الصادرة من جهة الإدارة من ممارسة الحرية فى تسويق القطن التى جاء بها القانون رقم 210 لسنة 1994 فى تجارة الأقطان وأُكرهت على بيع ما لديها من أقطان بالأسعار التحكمية التى حددتها تلك القرارات ولم يكن لها يد فى ذلك بعد أن حظرت الإدارة التصدير رغم أن الأصل الدستورى هو تشجيع التصدير وتم ملاحقتها تأديبياً وقضائياً عند احتفاظها بالأقطان بحوزتها ، ولم يكن فى مقدرتها سوى الانصياع ببيع أقطانها بالأسعار المتدنية التى تم تحديدها فى ضوء غلق أبواب تصريف الأقطان إلا للمغازل الحكومية أو المحلية وهو ما أدى بدوره إلى تدنى الأسعار بالمقارنة بأسعار الشراء المرتفعة فى ضوء ما كانت تأمله من زيادتها فى ضوء قواعد المنافسة والحرية التسويقية الداخلية والتصديرية التى أرستها قواعد القانون رقم 210 لسنة 1994 السالف الإشارة إليه وبذلك تحقق وتتساند وتتكامل أركان مسئولية الجهة الإدارية عن تعويض المدعية عما لحقها من أضرار وهو ما تقدره المحكمة بمبلغ مقداره مائة ألف جنيه.
واختتمت المحكمة بقولها: إن الدولة القانونية - وعلى ما تنص عليه المادة 94 من الدستور - هى التى تتقيد فى ممارستها لسلطاتها - أيا كانت وظائفها أو غاياتها - بقواعد قانونية تعلو عليها، وتردها على أعقابها إن هى جاوزتها، فلا تتحلل منها، ذلك أن سلطاتها هذه - وأيا كان القائمون عليها - لا تعتبر امتيازاً شخصياً لمن يتولونها، ولا هى من صنعهم، بل أسستها إرادة الجماهير فى تجمعاتها على امتداد الوطن، وضبطتها بقواعد آمرة لا يجوز النزول عنها، ومن ثم تكون هذه القواعد قيداً على كل أعمالها وتصرفاتها، فلا تأتيها إلا فى الحدود التى رسمها الدستور، وبما يرعى مصالح مجتمعها وأن مضمون القاعدة القانونية التى تعتبر إطاراً للدولة القانونية، تسمو عليها وتقيدها، إنما يتحدد - من منظور المفاهيم الديموقراطية التى يقوم نظام الحكم عليها على ضوء المعايير التى التزمتها الدول الديموقراطية فى ممارستها لسلطاتها، واستقر العمل فيما بينها على إنتهاجها بأطراد فى مجتمعاتها، فلا يكون الخضوع لها إلا ضماناً لحقوق مواطنيها وحرياتهم، بما يكفل تمتعهم بها أو مباشرتهم لها دون قيود جائرة تنال من محتواها أو تعطل جوهرها.