ألقى صباح اليوم الخميس،الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر، كلمة الأزهر الشريف أمام الاجتماع الثالث عشر لمجلس أمناء الجامعة الإسلامية العالمية الذى يعقد فى قصر الرئاسة فى إسلام أباد بحضور ورئاسة ممنون حسين، رئيس جمهورية باكستان الإسلامية، الرئيس الأعلى للجامعة.
إلى نص كلمة وكيل الأزهر أمام الاجتماع:-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
الرئيس/ ممنون حسين، رئيس جمهورية باكستان الإسلامية – الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد.
السادة العلماء الأجلاء
السيدات والسادة الحضور
أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
فيطيب لي في البداية أن أنقل لحضراتكم جميعًا تحيات فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وتمنياته لهذا الاجتماع الموقر بالتوفيق والسداد. واسمحوا لي أن أعرب عن سعادتي الغامرة بمشاركتي في هذا الاجتماع الثالث عشر لمجلس أمناء الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، تلك الجامعة المتميزة التي تعد ثمرةً من ثمرات التعاون بين الدول الإسلامية، وصورةً من صور الوحدة الإسلامية المنشودة.
الحضور الكريم:
إن ما يمر به العالم اليوم - وخاصة بلادنا الإسلامية - من تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف، وإذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية والعِرقية، لَيؤكدُ ضرورة التعاون الجاد لمواجهة هذه الظواهر البغيضة التي يسعى أعداء أمتنا لإذكائها واتخاذها ذريعة للقضاء على بلادنا وتحطيم آمالنا في مستقبل أفضل لشبابنا.
وعلى الرغم من تعدد صور الإرهاب المعاصر واختلاف البواعث الحاملة عليه، وتفاوت آثاره باختلاف جرائمه، إلا أن الشريعة الإسلامية لم تتوانَ في حسم مادة شره، والحيلولة دون تفشي أضراره، سواء أكان هذا الإرهاب يمارسه فرد، أم تنظمه جماعة، أم تقوم به دولة.
وقد ورد إلى مشيخة الأزهر الشريف الفتوى الصادرة عن علماء باكستان والتي تجيب عن بعض الأسئلة التي تدور حول اتهام جيش وحكومة باكستان بالكفر لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا كاملًا، وحكم قتال جيش وحكومة باكستان واعتبار هذا القتال من الجهاد في سبيل الله، وحكم قتال الجيش والشرطة لهذه العناصر التي تتهم الجيش والحكومة بالكفر واعتبار هذه العناصر خارجين عن طاعة ولي الأمر، وحكم الجماعات الطائفية التي تحاول فرض معتقداتها على الآخرين بالقوة.
وبعد اطلاع مشيخة الأزهر على الفتوى الصادرة بإجماع علماء باكستان من كافة المذاهب، تلك الفتوى التي نفت صفة الكفر عن حكومة وجيش باكستان، وأن دولة باكستان دولة إسلامية؛ إذ ينص دستورها في عدة مواد (١، ٣١، ٢٢٧) على أن القوانين الصادرة عن الحكومة الباكستانية يجب ألا تخالف القرآن والسنة النبوية، وألا يُسنَّ أي قانون يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، ولذا فإن أي أعمال عنف ضد الدولة وجيشها تعتبر فسادًا في الأرض ومعصية لله ورسوله، وأن من يقومون بتنفيذ عمليات انتحارية يرتكبون ثلاثة ذنوب هي (الانتحار، وقتل الأبرياء، والخروج ضد حكومة باكستان)، ولذا فإن من يقومون بذلك يجب على حكومة وجيش باكستان قتالهم في ضوء الضوابط الشرعية، وأن على المسلمين تأييد هذه العمليات العسكرية والأمنية التي تقوم بها الدولة الباكستانية، وأنه يجب احترام الاختلاف الفكري بين المذاهب، ويجب أن يبقى هذا الخلاف في إطاره العلمي والفكري، وأنه لا يوجد أي مبرر للسب أو الشتم لأمهات المؤمنين ونشر الكراهية والعدائية بين أتباع المذاهب المختلفة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال اتخاذ هذا الاختلاف أساسًا للقتل والنهب، أو فرض أفكار ومعتقدات بعينها على الآخرين، أو التربص بالمخالفين للقضاء عليهم.
تؤكد مشيخة الأزهر على أن ما جاء في هذه الفتوى يتفق وصحيح ديننا الإسلامي ولا يخالف نصًّا أو حكمًا شرعيًّا، ولذا فإن مشيخة الأزهر تؤيد هذه الفتوى وتؤكد على ما ورد فيها، وتفيد بأن هذه الفتوى تنطبق على مثل هذه الحال في كل البلاد الإسلامية ولا تختص بدولة باكستان وحدها، فلا يخفى على مسلم أن قضية التكفير من أوسع أبواب الإفساد في الأرض؛ لما تجره على المجتمعات من أضرار تضعف قوة المسلمين وتَفُتُّ في وحدتهم، فضلًا عن علاقتهم بخالقهم. والثابت عن سلفنا الصالح من خلال ما استقر في قواعد شرعنا الحنيف أن المسلم الذي ثبت إسلامه بيقين لا يخرجه من الإسلام إلا جحده وإنكاره لما أدخله فيه، وأنه إن غلب على الظن كفر مسلم واحتُمل احتمالاً ضعيفًا بقاءُ إسلامه؛ وجب الحكم بإسلامه، وحرُم الحكم بكفره احتياطًا، وذلك لقوله r: «إذا قال المرء لأخيه يا كافر، فقد باء بإثمها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رُدت إليه».
ونعلم جميعًا إنكار رسولنا الشديد على سيدنا أسامة بن زيد قتل مشرك بعد أن قال (لا إله إلا الله)، ولم يقبل رسولنا r تعليل سيدنا أسامة لقتله بأنه لم يسلم حقًّا، وإنما نطق بالشهادة حين أيقن أنه مقتول لا محالة ليدفع القتل عن نفسه، فقال له مَن أرسله ربه رحمة للعالمين منكرًا عليه فعله وتعليله: «فهلَّا شققت عن قلبه!». وما زال يكررها حتى قال سيدنا أسامة: فتمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم! وإذا كان تكفير شخص واحد غلب على الظن أنه كافر غير ممكن في شرعنا الحنيف، فكيف بتكفير جيش وحكومة دولة تعتز بالإسلام منذ إنشائها، حتى أنها اتخذت الإسلام اسمًا لعاصمتها (إسلام آباد)؟!
إن هؤلاء الإرهابيين مفسدون في الأرض محاربون لله ورسوله يستحقون أشد العقوبات الواردة في شرعنا على الإطلاق، وهي العقوبات المنصوص عليها في قول الله تعالى: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
والأزهر الشريف إذ يؤكد على ما جاء في تلك الفتوى، فإنه ينبِّه – في الوقت نفسه - على أن ثمة فرقًا بين الخروج على الحاكم والإفساد في الأرض معنًى وضوابطَ وحكمًا؛ حيث إن الإفساد في الأرض أو الحرابة أصلها قول الله تعالى: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وهي جريمة مستقلة عن جريمة الخروج على نظام الحكم (البغي) التي أصلها قول الله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا).
والبغي له معنى معين وضوابط محددة في الفقه الإسلامي، فهو الخروج عن طاعة ولي الأمر ورفض الاعتراف به، ولا يوصَف البغاة بذلك إلا إذا تحقق في شأنهم جملة من الشروط، أهمها: امتلاكهم شبهة قوية في الظاهر يجعلونها دليلًا لخروجهم على ولي الأمر، كشبهة الخروج على سيدنا علي حين قَبِلَ تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص بينه وبين معاوية - رضي الله عنهم جميعًا - حيث رأى الخارجون عليه أن في ذلك مخالفة لكتاب الله عز وجل الذي يقول فيه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ). ويُشترط كذلك أن يكون للخارجين على ولي الأمر قوة ومِنعة تمكِّنهم من قتال جيش الحاكم الذي خرجوا عليه، وأن يكونوا متحيزين بمكان ما يسيطرون عليه ويمنعون الحاكم ومَن معه من دخوله أو إنفاذ قوانينه فيه.
فإن لم يكن ذلك متوافرًا في هذه الجماعات التي تقاتل الجيش والحكومة الباكستانية، فلا يجوز وصفهم بالبغاة الخارجين على الدولة، ويكون الوصف اللائق بهم عندئذ هو الإفساد في الأرض. وإنما كان وصف الإرهابيين بالمحاربين لله ورسوله المفسدين في الأرض هو الوصف المناسب لهم؛ لأنه الوصف الذي يمكِّن من التعامل مع هؤلاء الإرهابيين بما يتناسب وهول الجرائم التي يرتكبونها، ويفوِّت عليهم فرصة الإفلات من العقاب بأي حيلة كانت؛ لأن مجرد اجتماع المفسدين وعزمهم تنفيذ جرائم ضد الآمنين يجيز البدء في التعامل معهم كمجرمين وإن لم يرتكبوا جرائم بالفعل، وإذا ما ثبت لهم وصف الإفساد في الأرض، يحق للقاضي عندئذ أن يُنزل بهم أشد عقوبة وردت في شريعة الإسلام دون نظر لنوع الجرائم التي ارتكبوها، كما أن وصف هؤلاء بالمفسدين في الأرض يمكِّن من معاقبة مَن ساعدهم أو تستر عليهم وليس مَن اشترك في تنفيذ الجرائم فقط، ويمكِّن وصفهم بالمفسدين في الأرض كذلك قوات الجيش والشرطة من مباغتتهم دون إنذار، واستخدام القوة اللازمة للقضاء عليهم دون اشتراط تدرج في استخدامها متى تأكد أن هؤلاء إرهابيون أفرادًا كانوا أو جماعات.
أما البغاة، فإنهم لا يقاتَلون ما لم يبدءوا هم بالقتال، حتى لو أعلنوا خروجهم على الحاكم، وامتلكوا القوة وتحيزوا، وهذا ما فعله الإمام علي مع الخارجين عليه حين كانوا يعرِّضون به كلما رأوه قائلين: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)؛ حيث قال لهم: (كلمة حق أريدَ بها باطل، لكم علينا ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نبدؤكم بقتال). كما أن قتال الخوارج - إذا كان قتالٌ - يبدأ متدرجًا من الأخف إلى الأشد، ويكون لكسر شوكتهم وإضعافهم فقط وليس لإفنائهم، ولذا لا يجهَز على جريحهم، ولا يتبَع مدبرهم الفار من ساحة القتال، أما قتال المفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله فإنه يكون لإفنائهم وقتلهم جميعًا.
السيدات والسادة الحضور:
إن وحدة الأمة الإسلامية هدف نبيل ومقصد عظيم وغاية سامية عبر عنها ربنا عز وجل في غير آية من كتابه العزيز؛ حيث يقول: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ويقول أيضًا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، غير أن هذه الوحدة المنشودة ينبغي أن تكون هدفًا يسعى إلى تحقيقه الجميع على أسس سليمة ورؤية جادة يمكن ترجمتها إلى واقع ملموس يناسب الزمان والمكان، دون التفات إلى تلك الدعوات التي يطلقها بعض بنى جلدتنا بين الفَينة والأخرى مستغلين تشوق المسلمين في شتى أرجاء المعمورة إلى وحدة تجمعهم، فتراهم يرفعون راية استعادة نظام الخلافة الإسلامية، متخذين من عناوينها البراقة شعارًا، وهم في الحقيقة يتسترون وراء ذلك لارتكاب جرائم القتل والاعتداء على الأموال والأعراض، ويصدرون أحكام الردة والكفر على من خالفهم الرأي ولم يتبع فكرهم ويأتمر بأمرهم ومن لم ينخرط في صفوفهم ويبايع أميرهم، زاعمين أنهم بهذا النهج المختل يحققون الوحدة المزعومة ويستعيدون دولة الخلافة المأمولة!
وفي المقابل، يرى بعض المسلمين أن مساعي الوحدة الحقيقية على أي صورة كانت إنما هي أحلام أقرب للأوهام وإفناء للأعمار في ما لا يمكن تحقيقه!
ولعل واقعنا الراهن وما تقتضيه مستجدات الزمان والمكان تدعونا إلى القول بأن الوحدة الحقيقية التي يمكن أن تتحقق وفق هذه المعطيات ليست وحدة الاندماج وإزالة الحدود والاحتكام إلى حاكم واحد ودمج الاقتصادات وتوحيد الأنظمة والقوانين؛ فقد تجاوز الزمان والمكان ذلك بكثير، ولا يمكن لواقع الدول الإسلامية التي تتخللها دول كاملة ليست مسلمة، فضلًا عن اختلاف الدول الإسلامية نفسها اختلافًا كبيرًا لسانًا ولهجةً وأنظمة حكم واقتصادًا وقوانين، وتفاوتها من حيث الغنى والفقر والقوة والضعف؛ إضافةً إلى ما يمكن أن تلقاه هذه الوحدة من صعوبات كثيرة، وما قد تواجهه من ضغوطات شديدة - لا يمكن لتلك الأمور أن تكون عوامل مساعدة لتحقيق تلك الوحدة المنشودة
ومع تحفظنا على الطرحين السابقين لمغالاة الأول وانهزامية الثاني، فإنه ليس أقل من التكامل بين الدول الإسلامية والتعاون الجاد وتعزيز العلاقات المختلفة بينها، في مجالات التعليم، والبحث العلمي، والاقتصاد، والعلوم العسكرية، والنظم الإدارية، وغيرها من المجالات، بما يفضي في النهاية إلى إيجاد وحدة حقيقية تتجاوز الكلام الفضفاض والشعارات البراقة، إلى واقع عملي ملموس يعود على الأمة في مجموعها بالخير الدنيوي ويحقق خيريتها الشرعية، ولا يتنافى مع خصوصياتٍ فرضها الواقع ومستجدات الزمان والمكان، إضافة إلى أن الوحدة بهذه الكيفية وهذا المعنى لن تكون مستحيلة إذا ما وُجدت الإرادة الحقيقية، واتُّخذت الإجراءات الكفيلة بتحققها على أرض الواقع.
وفي إطار هذا التكامل والتعاون الجاد الذي يدعو الأزهر إليه ويأمل في تحقيقه، فإن الأزهر الشريف يرحب بالتعاون مع الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد في مجال التبادل العلمي ونقل الخبرات، والمنح العلمية والبعثات، وبحث القضايا الفكرية والفقهية والمجتمعية ذات الاهتمام المشترك، والاستفادة من التقنيات التكنولوجية في التعليم والبحث العلمي، والمشاركة في المؤتمرات العلمية المختلفة، ونشر الكتب العلمية والفكرية وتداولها. كما يرحب الأزهر الشريف بالتعاون وتعزيز العلاقات مع الجمهورية الباكستانية في مجال البعثات الأزهرية، والقوافل الدعوية، وتدريب الأئمة والوعاظ، والمواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب من خلال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، ومرصد الأزهر لمكافحة التطرف، ومركز الأزهر للترجمة، وتقوية نسيج المجتمع الواحد والتعايش السلمي من خلال الاستفادة من التجربة الفريدة المتمثلة في (بيت العائلة المصرية)، وغير ذلك من سبل التعاون المثمر لكلا الطرفين.