جرس المنبه المتصل ينبهنى أننى لست فى حلم، أمد يدى للوصول للهاتف لإبطاله.. صوت الكراااش يطير بقايا النوم من عينى. الهاتف سقط منتزعا الشاحن من قابس الكهرباء وارتطم بأرض صلبة، لستُ فى غرفتى، هذا فندق، والهاتف كان على حافة السرير الخشبية وليس على الطاولة الجانبية، سارعت لتفحص الشاشة.. إنها سليمة.
كنت حريصا على الاستيقاظ فى التاسعة، فالإفطار فى الفندق سينتهى فى العاشرة صباحاً، ارتديت الهودى الأبيض بصورة صلاح مطبوعة على الصدر، نزلت الدرج فوصلت المطعم فى التاسعة والنصف، غرفة طويل بسيطة، طاولتان لأختار ما أفطر به مما صُفَّفوقهما، إعلان ورقى صغير عن استعداد المطعم لتحضير طبق من البيض كيفما يريد النزيل، أو عصيدة من الأرز أو الشوفان.
تليفزيون صغير قديم معلق على الحائط.. برنامج تلفزيونى، حتماً إنه صباح الخير يا روسيا أو ما يشابه، فكل تلك البرامج تتشابه، ما علاقة عصير البرتقال بصباح جيد؟ شخصياًيُصيبنى بحموضة فى المعدة تستمر طوال اليوم، لكن تكتل مزارعى كاليفورنيا الضخم وشركات تسويقهم، ربطت الإفطار الصحى والصباح الجيد بعصير البرتقال.
لا وقت الآن لأفكارى عن مقاومة حملات التسويق العالمية، فعقارب الساعة تشير إلى أنه باقى أقل من 20 دقيقة ليغلق مطعم الفندق، التزمت بالخيارات الآمنة، بعض قطع الأجبان البيضاء والصفراء، شرائح من الخيار والطماطم، بضع زيتونات، ركن المخللات به طماطم وفاصوليا، تجنبتهما وإن ثار فضولى وأجَّـلت تناولهما لإفطار الغد، فما أزال حريصاً على ألا أُصاب بالإسهال خلال مباراة اليوم فى الاستاد.
قطع من خبز أبيض وبنى وأسود، الخبز الأسود وزنه ثقيل، كما لو كان من أسمنت وليس من دقيق، هناك قطع تبدو شهية وطازجة من الكيك المخبوز طازجاً، لكن لفتت انتباهى حبيبات سوداء منتشرة وسطه، سألت النادل فى المطعم، فأجابنى باستخدام ترجمة جوجل: بذور الخشخاش.
أووووه آخر مرة تناولتها كانت فى أفغانستان عام 2005، فالأفغان وشعوب عدة يستخدمون بذور زهرة الخشخاش فى المخبوزات، التى لا تؤدى إلى الانتشاء، فالبذور ليست كالأفيون وهو رحيق تلك الزهرة جميلة الشكل.
كوبان من القهوة السوداء بعد الإفطار، أعددت غليونى لأدخنه خارج الفندق، حملته مع كوبين من القهوة والغليون وحقيبة الغليون التى تحمل أدوات تنظيفه، واستعرت مهارات لاعب سيرك كى أفتح أبواب مثبت بها مزلاج من أعلى، ليبقيها مغلقة كى تبقى الغرف دافئة، سارعت عاملة نظافة فى الفندق إلى مساعدتى فى فتح الباب، فهذا أهون من أن تنظف الفوضى، التى ستقع إن أكملت محاولاتى البهلوانية، بكوبين من القهوة.
أشعل الغليون خارج المطعم لأجد على بعد أمتار شابين يبدو أنهما عربيان، خرجا من باب الفندق، أحدهما يحمل كاميرا كبيرة مع حامل ثلاثى، والآخر يحمل مايكروفوناً من دون لوجو القناة، إنهم زملاء مهنة إذاً، صباح الخير قلتها بصوت عال، ليقطع الأمتار الفاصلة بيننا.
صباح النور... بلهجة مصرية خالصة، قالها حامل المايكروفون.
إنهم من مصر إذاً، فغالباً من إحدى القنوات الخاصة المصرية، وغالباً هناك زملاء نتشارك معرفتهم، من أى قناة؟ طرحت سؤالى باستفهام وأنا أفكر: هل المدخل المناسب ذكر بعض الأصدقاء المشتركين، أم الحديث عن نوعية المعدات، أم عن الـ....؟!
الجزيرة.. قسم الرياضة فى قناة الجزيرة.
قطعت تلك الإجابة كل السيناريوهات، التى أعددتها لاستكمال هذا الحوار، لاحظتُ طائراً عادياً فوق شجرة عادية، فرفعت رأسى باهتمام غير عادى لأتابعه وأشعل غليوني، وكأنى مراقب دولى متخصص فى حركة طيور سيبيريا المهاجرة، هززتُ رأسى، الشاب أيضاً تفهم وبدأ يراقب حركة سرب من النمل، يتحرك بين شقوق أرضية مدخل فندقنا.
انتهيتُ من التدخين وكوبين من القهوة، تبخرت سخونتهما قبل أن أستمتع بمذاقهما المر، الذى ينشط خلايا مخي، التى تحاول بقوة أن تعود بى إلى الفراش الدافئ، قلتُ شيئاً ما غير مفهوم، كى يبدو وداعاً أو إلى اللقاء للشابين، ورجعتُ لدفء المطعم، كى أطلبَ التاكسى عبر التطبيق المحلي، هذه المرة أنا مستعد بحافظة النقود الخاصة تحت الإبط، وفى انتظار التاكسى توجهتُ للاستقبال، ألقيتُ تحية الصباح "دُوبرا أوترا" على موظفة الاستقبال الجميلة، زادت مفرداتى اللغوية خلال 24 ساعة. رأيت وفداً من السياح يصلون الفندق يحملون أعلام بلادهم.
أعلام ... علم ... تذكرت.. كيف نسيت.... أركضُ سريعاً لأصعدَ لغرفتى، هل سيكون هذا روتينى اليوم؟ رئتى ووزنى لا يحتملان هذا المجهود الرياضى كل يوم.
أدخلُ غرفتى، فأجده مفروداً على السرير كما تركته، أطويه بعناية، وأحمل الصارى، وأهبط الدرج للتاكسي، الذى ينتظر ليحملنى إلى منطقة المشجعين.
نمر بسلسلة محلات ماكدونالدز وبرجر كينج وسيتى بنك نفسها، ألاحظ اليوم عدداً أكبر من العلامات التجارية العالمية، فى الطريق إلى وسط مدينة إيكاترينبرج، الشمس تسطع باستحياء، نعبر جسراً فوق نهر إيست، لنتجاوز الجزء السكنى من المدينة إلى وسطها التجارى، تظهر أعداد من المشجعين المصريين بزى المنتخب، يسيرون عن اليمين وعن الشِمال، الكل يسيرون فى الاتجاه نفسه، طقوس التشجيع والهتاف تزداد صخباً كلما اقتربنا من وسط المدينة، كما تعلو أصوات الفوفزيلا، لعنة الله على من اخترعها.
أخرج من التاكسى الذى يُصرأيضاًعلى إرجاع بقية المبلغ المتبقى رغم قلته، أقومُ بمد الصارى ليصل ارتفاعه إلى ثلاثة أمتار (هو بالأساس صنارة تستخدم فى صيد الأسماك النهرية وحولته لصارى علم) أُخرجُ من جيبى علم "محمد صلاح" وأقوم بتثبيته فوق الصارى، العلم كبير ومبهج، فأدخلُ رافعاً العلم إلى منطقة التشجيع، التى تشتعل بمجرد أن لاحظت صورة النجم الشهير تعبر الطريق نحو التجمع، الذى أصيب بالهستريا وفقد وحدة الهتاف، فالبعض يغنى مو سالا.. مووو سالا ... التى ينشدها مشجعو فريق ليفربول لجناحهم الأيمن المتألق، والبعض يهتف: أوووه صلااااح بالعربية، والبعض الآخر لم ينتبه ولا يزال يصيح ماااصر مااااصر.
ألوح بالعَلم فى سماء روسيا ببهجة جديدة تماماً، لم أشعر بها من قبل، نعم أنا جديد فى كرة القدم، سنى 38 عاماً، ولم أشجع فريق كرة فى حياتى من قبل، ولم أدخل استاد كرة أبداً، ناهيكم أن نظريات تسارع المقذوفات الصاروخية، لوضعها فى مسار حول كوكب فى مداره الأزلى، كانت دائماً أسهل لى من فهم فكرة خطأ "التسلل" فى مباريات الكرة، كما أننى لم أفهم إلى الآن لماذا توقف حراس المرمى عن ارتداء البناطيل الرياضية الطويلة خلال المباريات،وأصبحوا يرتدون الشورتات.
ألوِّحُ بالعَلَم وأتذكرُ عندما لفت محمد صلاح انتباهى، وبدأتُ أتتبع أخباره لأنبهر به كإنسان، وكشخص ناجح، قبل أن أهتم به كلاعب كرة، ألوِّحُ بالعلم وأتذكرُ منشوراً لى على صفحتى فى فيسبوك أسأل أهل الخبرة من الأصدقاء الكرويين: هل يمكن أن أكون مشجعاً للاعب كرة قدم، وليس لفريق بعينه ولا لمنتخب؟
ألوِّحُ بالعلم وابتسم وأتذكر قرارى بالسفر لروسيا لتشجيع صلاح، واندهاش كل من يعرفنى...، انقطع حبل الذكريات القريبة، أحد المشجعين أخذ العلم وصار الحشد يقفز بحماسة جنونية.
تذكرت عامل المطبعة الهندى فى دبى، الذى أنجز طباعة العلم خلال 12 ساعة فقط، واندهشت أنه يعرف صلاح ويتمنى له التوفيق، فالكريكيت هو اللعبة الشعبية الأولى فى الهند، وكرة القدم لا وجود لها تقريباً هناك.
ممكن أتصور مع العلم؟ سؤال تلقيته من أحد المشجعين، فابتسمتُ وناولته العلم كى يرفعه، لكننى فوجئتُ بأنه لا يرغب فى حمله، بل فى الوقوف بجواره لالتقاط الصورة، تعجبت ولكن تبعه آخر وثالث ورابع، ثم تحوَّل الموضوع إلى تجمع من الروس والمصريين، يتجمهرون لالتقاط صورة وهم يقفون بجوار صورة...!
عَلَم صلاح، الذى كان يرتفع لمترين، وبعرض متر ونصف المتر، كان مجرد صورة مطبوعة على بوليستر، نعم استغرقت 4 ساعات لاختيارها، نعم ساعدنى صديق متخصص فى الجرافيكس لضبطها وتعديلها، لكنها فى النهاية صورة. أنا سعيد بحمله كعلم، والتلويح به لتشجيع صلاح، لكننى لم أفهم تجمهر الناس ليلتقطوا صورة مع... مجرد صورة لصلاح، فماذا سيفعلون إن قابلوه؟!
سالاخ بصاد، تخففت إلى سين، وحاء انقلبت خاء خفيفة، هكذا كان ينطق الروس اسمه وهم يشيرون للكتف، مستفسرين إن كان سيلعب اليوم أمام أوروجواى، وأجيب برفع الكتفين لمستوى الأذن: لا أعرف يقيناً.
الساعة تقترب من موعد المباراة، مجموعات بشرية تنسحب من منطقة التشجيع باتجاه الاستاد، احتل المصريون جانباً من الشارع، ومشجعو أورغواى الرصيف الآخر وشرعنا نتسابق فى التشجيع.
عَبَر 3 من مشجعى أورغواى الطريق، أوقفونى، سألوا بلغة إنجليزية بسيطة: هل سيلعب صلاح اليوم؟ كررت إجابتى، طلبوا التقاط صورة مع صورته ومعى.
غريب ما علاقتى بالموضوع؟ لم يطلب أى من المشجعين المصريين التصوير معى، رغم أننى أحمل العلم نفسه.
تناقشتُ معهم، هل فعلاً يرغبون أن يلعب صلاح ضدهم اليوم؟ فكان جوابهم معناه، أنه لاعب جيد، ومشاهدته فى الملعب متعة حتى لو كان ضدهم، وغمز أحدهم بأن فوزهم لن يعد كاملاً لو لم يكن صلاح ضمن التشكيل.
تصافحنا، وعادوا إلى رصيف مشاة مشجعيهم، وظهر الاستاد فى الأفق.
@MawlanaAlRazi