سباسيبا بولشويا..يوميات مصرى فى مونديال روسيا (3)

أمواج بشرية تلوَّنت بالأحمر والأبيض والأسود، صيحات ترتفع لتشوِّش على صيحات موجات بشرية تلوَّنت بلون السماء، فى الطريق إلى ملعب إيكاترينبرج أرينا، قطعتُ أكثر من نصف ساعة سيراً على قدمى، ولا يزال الملعب بعيداً، بدأتُ أتعرَّق فى درجة حرارة لا تتجاوز العشرين مئوية، أرحت صارى علم صلاح على كتفى، بعدما بدأتُ أشعر بألم فى عضلات الكتف والذراع، لم أكن رياضياً فى يوم من الأيام، ولا مشجعاً، هل ما أفعله صحيح، أم ضرب من لوثة منتصف العمر، أحملُ علم لاعب كرة قدم، وأسافرُ إلى روسيا لأكون مشجعاً لأول مرة فى الثامنة والثلاثين؟! متطوعو الفيفا من الشباب الروس أعمارهم تحت 18 سنة. شباب وبنات يوقفوننى من أجل صورة مع علم صلاح، عائلات مصرية، أحد أفراد الشرطة الروسية طلب صورة، واستعان بمتطوعة للفيفا، كى يخبرنى بأنهم قد لا يسمحون لى بدخول الاستاد، لأن العلم أكبر من المقاسات المسموح بها، فأخبره بأننى طبعته بناءً على مقاسات الفيفا المنشورة على موقعهم، والحقيقة أنها كانت صدفة بحتة. أستمرُ فى السير نصف ساعة أخرى، سخونة وجهى تؤكد أن لونه صار مثل بطيخ الصيف، وأشعرُ بحبات عرق تتسابق فوق جلدى، يهتف عقلى الباطن "عمار يا دبى"، لو نظموا الحدث لوفروا حافلات أو سيارات كهربائية لنقل المشجعين، أتفهم الدواعى الأمنية لغلق شوارع كاملة فى محيط الاستاد، لكن أن يسير المشجعون ساعة كاملة، للوصول إلى بوابات الدخول، فهذا درب من التعذيب. أصِلُ إلى مفترق طرق، لافتات بالروسية والإنجليزية، أنظرُ سريعاً لتذكرة الدخول، أتأكدُ من رقم بوابة الدخول على تذكرتى، أتبعُ اللوحة الإرشادية، تكثر أعداد متطوعى الفيفا، يوقفون الجماهير للتأكد من أن كل شخص يسير باتجاه بوابته المطبوع رقمها على التذكرة، يحاولون التقاط صور تذكارية مع مشجعين لافتين بأزياء فرعونية، وتفننوا فى تلوين وجوههم، ثلاثة يركضون خلفى، يحاولون التقاط صورة، أعتذر فعضلات الساق تخبرنى بأنها تسير بالدفع الذاتى، ولو توقفت سأجلسُ على الرصيف ولن أستطيعَ مواصلة الدرب الصاعد للأعلى. أخيراً رقم بوابتى يظهر أمامى بين حبات العرق، التى تساقطت تحرق عينَى، أعبرُ السياج الأمنى تجاه بوابة إلكترونية، متطوع من الفيفا يرشدنى لوضع هويةFAN IDعلى جهاز الماسح الضوئى، ثم أتبعه بمسح الكود الرقمى على تذكرتى، يضىء الجهاز بالأخضر، فتصدرُ البوابة المعدنية صوتاً معدنياً دلالة على فتح القفل المغناطيسى فأعبرُ إلى صالة عريضة تعج برجال الأمن على جانبى أجهزة الكشف عن المعادن وكلب بوليسى. مثل المطارات، أُخلى كل جيوبى من أى معادن، أضعها فى صندوق مفتوح مع معطفى المقاوم لمياه الأمطار، ليمر الصندوق عبر جهاز أشعة إكس، وأمر مع علم صلاح والصارى المصنوع من ألياف الكربون، عبر بوابة كشف المعادن التى تظل على صمتها، لكن يقطع الصمت صياح ضابط روسى ضخم يقول: نييى نييى ستوب. يوقفنى الضابط المسئول عن جهاز الكشف، الذى مررت منه إلى أن يصل ذلك الضخم الذى يشير إلى علم صلاح، وهنا أستعد بكل ما قرأته عن الضوابط المصرح بها فى منشور الفيفا من مقاس العلم ونوعية القماش، ونوع الصارى. الضابط يطلب مساعدة من أحد متطوعى الفيفا للترجمة بيننا، أؤكد للمترجم أن العلم مقاسه قانوني، فيجيب مترجماً عن الضابط: من فضلك ضعه على الحائط. ألتفتُ لأجد الحائط يحمل رسماً لعلم مع مقاسات بالسنتيمتر، ففهمت أنه إن كان حجم العلم أكبر من الرسم على الجدار لن يسمح به، فابتسمت ووضعت العلم، وأخذ الضابط يدقق، وينظر لأصابعى ليتأكد أننى لا أغش فى المقاس. من فضلك اعطنا العصا قلتُ له هى مصنوعة من ألياف الكربون القابلة للثنى، وأيضاً مطابقة. لكنها أطول من المسموح به، فالحد الأقصى كما يقول الضابط هو 90 سم أشرح للفتى المتطوع بأنه مسموح بحمل علم بمقاس 200 سم * 150 سم، فكيف يعقلُ أن يكون طول الصارى المسموح به هو 90 سم فقط؟ الضابط يطلب العصا من فضلك. أُسلِّمُ الضابط العصا، يقوم بمدها ليكتشف أن طولها قد يصل إلى 4 أمتار كاملة، فيرسم ابتسامة النصر على وجهه وكأنه اكتشف خلية داعش، التى تستهدف تفجير كأس العالم شخصيا...! أحاولُ الشرح لمتطوع الفيفا، كى يترجم للضابط، هى صنارة سمك نهرى، حولتها لصارى للعلم، لأنها تطابق مواصفات الفيفا، ويمكن تقصيرها أو مد طولها حسب الحاجة. الضابط يصرخ مرة أخرى: ستوب ستوب نييييى. ألتفتُ فإذا به يركضُ تجاه مشجع خمسينى بصحبة ابنه وابنته، يرتدون قمصان منتخب أورجواى، ويحملون علماً كبيراً لبلادهم، يطلب من الضابط الانتظار، ويطلب من المترجم أن يقوم المشجع الخمسينى بقياس علمه على الحائط، فيمتثل المشجع الخمسينى، وهنا أراه يحاول إخفاء حوالى 10 سم من العلم، عندما اكتشف بالنظر أن علمه أكبر من الرسم الموجود على الحائط، لكن الضابط الضخم يكتشفُ محاولة المشجع الخمسينى، ويبعد يده بخشونة، ليقوم بالقياس بنفسه، ويبتسم مرة أخرى أن ها هو الطول الحقيقى لعلمك.... نييى، أى كلا، غير مسموح. المشجع الخمسينى يحاول بإنجليزية بسيطة أن يشرح أن 10 سم لا تشكل فرقاً، ويبتسم لكل من تجمهر من متطوعى الفيفا وضباط الأمن، لكن الضابط الضخم يصر على... لا. يثور المشجع الخمسينى، ويبدأ كما نفهم من ملامح وجهه السباب بلغته الإسبانية، وتحاول ابنته تهدئته، ابنه يتكلم مع أحد متطوعى الفيفا، ويتناقشان بهدوء، متطوع الفيفا يتحدث بالروسية مع الضابط الذى يصمت، ثم يسأل ضابطه عن شىء ما، فتحرِّك رأسها أن نعم، فلا يبدو الرضا على وجهه، تسرع الضابطة لمكتب صغير وتفتح أحد الأدراج لتخرج مقصاً. أقول لمتطوع الفيفا المترجم: أحقاً ستقصون علم مشجع أورجواى؟ يرد: كلا سيدى، هو من سيقوم بقصه بنفسه، إن أراد المرور به من هنا. الابن يشرح لأبيه الحل الوسط، الذى توصل إليه مع متطوع الفيفا، وأنهم أقنعوا الضابط به بصعوبة، الأب يلتفت لى بغضب ويسألنى بإنجليزية تعلوها لكنة إسبانية واضحة: أحقاً تعتقد أن دولة مثل روسيا كفؤ لتنظيم هذا الحدث العالمى؟اللعنة على فساد بلاتر وبوتين وروسيا. ابنته تسارع لإسكاته، بعدما تكهرب الجو، فما قاله لا يحتاج لترجمة إلى الروسية، وضباط الأمن استنـفروا، فناوله ابنه المقص. همست فى أذن متطوع الفيفا، هذا عار يا صديقى، أرجوكم افعلوا شيئاً لإيقاف هذا، أنتم من الفيفا، لا تجبروا رجلاً على قص علم بلاده من أجل 10 سم...! سيدى، لم نجبره، ابنه قال: لو عندكم مقص سنجعل مقاس العلم قانونياً. الرجل الخمسينى يتحدث ملوِّحاً بيديه عن سفره جواً فوق نصف الكرة الأرضية، ليشجع بلاده ويرفع علمها، ينظر للضابط الضخم ويضم أصابعه أمام صدره، فى محاولة استعطاف أخيرة، ناطقا: تولارنس تولارنس، نو تولارنس هير؟ ويقنعنى.. أين التسامح بلغة إنجليزية بسيطة، ويشير للمترجم أن تسامحوا مع 10 سم، لكن الكل ينظرون بجمود، حتى أنا ابتعدتُ خطوة عن هذا الموقف، فأنا التالى. ابنة المشجع الخمسينى تناولت المقص، وقامت بالمطلوب، مشوهة علم بلادها بقص 10 سم، تحملُ خيوطا ذهبية زيَّـنت الأطراف، فبدت منبعثة من الشمس التى تزيِّـن العلم السماوى، والأب بالتأكيد كان يسب باللغة الإسبانية ولكن دون أن ينظر للضباط الروس. مسلسل "ناركوس" الشهير جعل الكثيرين ملمين بالسباب باللغة الإسبانية. بعدما مرت العائلة التفتَ إلى الضابط ونظر أن.. ما قرارك؟ لحظة صمت تخللها وصول صوت عزف النشيد الوطنى المصرى والجمهور يهتف: بلادى بلادى بلاااااادى .. لكِ حبى وفؤادى. نظرتُ للضابطة بتوسل، كانت تبدو متعاطفة مع تفسيرى المنطقى، بأن كتيب الفيفا يقصد بالـ 90 سم الجزء الظاهر من الصارى خارج العلم، وليس العلم الكلى، وفعلاً استجابت وحاولت التحدث مع الضابط الضخم، وتشير إلى صوت النشيد الوطنى وتأخرى عن حضور المباراة، لكنه أخرج كتيباً بالروسية يحمل شعار الفيفا وفتحه وأشار لها إلى فقرة مكتوبة بنصر، فأدارت وجهها وانصرفت بعيداً. أدركتُ أننى لن أمر بالصارى، فتخليت عنه وتركته للضابط، ودخلت وأنا أشعر بمرارة، فلن ألوِّحَ بالعلم خلال المباراة كما أردت، إنه الآن مجرد قطعة قماش وليس علماً، ربطته حول عنقى ليتدلى من أعلى ظهرى لأسفله. وسرتُ تجاه الملعب، لأصعد درجاً شقَّ صدرى حقيقة فلم أتوقف للراحة، فصيحات الجماهير تؤكد أن المباراة بدأت منذ دقائق،فارداً للعلم أمامى فى المدرج، أشاهد المباراة على أمل نزول صلاح للملعب، أو أن يلتفت إلى صورته فى المدرجات، التى انتهزت فرصة خلو مقعدين أمامى لوضعها بصورة واضحة، فقد تصادف أن تذكرتى جعلتنى أجلس مواجهاً لمقاعد احتياط منتخبنا الوطنى. رغم برودة الجو فالعرق يغمر جسدى بسبب المجهود فى صعود الدرج. أداء قوى من منتخبنا خلال الشوط الأول، نسمات هواء باردة، لكنها لطيفة وليست مزعجة، هتاف الجماهير المصرية: رجالة رجالة رجالة، يصف الفريق المصرى. أقفُ رافعاً العلم فارداً الذراعين بأقصى امتداد لهما طولاً وعرضاً، كلما توقفت الكرة أو خرجت من الملعب، أردُّ على المتذمرين من الجمهور خلفى بأننى أعيق رؤيتهم فقط عندما يتوقف اللعب. التجربة كانت ساحرة، فالمشاهدة مختلفة تماماً عن التليفزيون، الكرة قريبة، وأسمع صوت ركلها بأقدام اللاعبين، كما أستطيعُ تحديد اتجاه الكرة بدقة عندما ترتفع، وليس كما على شاشة التليفزيون، وأخيراً متعة أن تتابع ما تريد متابعته فى المباراة بنفسك ولستَ مجبراً على متابعة ما يريدنى المخرج أن أراه، الشوط الثانى، فرصة، دفاع، هجوم قوى، و... هدف. @MawlanaAlRazi
















الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;