سباسيبا بولشويا.. يوميات مصرى فى مونديال روسيا (5)

ساعتان من التحليق إلى موسكو، فثلاث ساعات ترانزيت داخل المطار إلى موعد إقلاع طائرتى التى ستحملنى إلى سان بطرسبرج، أتذكر النقاش مع الأصدقاء المصريين- الروس، ورأيهم أنها أجمل مدينة أوربية، أتذكر روايات مصرية للجيب، ومغامرات أدهم صبرى فى ليننجراد، خلال الحقبة السوفييتية، ها أنا قادم يا سان بيتر كما تسمى اختصاراً. كانت الساعة تقارب العاشرة مساءً عندما خرجتُ لأستنشق بعض دخان النيكوتين خارج مطار سان بيتر، استخدمتُ التطبيق المحلى للتاكسي، واستعنتُ بمضيفة من شركة إيرفلوت، لتتحدث للسائق، لتخبره بالتحديد أين أقف بانتظاره وسط كل الزحام. يحملنى التاكسى إلى الفندق، الذى اخترته بناءً على نصيحة صديق مصرى، أمضى فيه وقتاً مع زوجته الروسية ونصحنى به، كنتُ محظوظاً فقد حجزتُ 6 ليالٍ كاملة بسعر مناسب جداً فى هذا الفندق ذى الأربعة نجوم، وخططتُ رحلتى بحيث أقضى فى سان بيتر أطول فترة ممكنة، تقطع سيارة الأجرة شوارع جميلة بأبنيتها العريقة، السماء لم تظلم، بعد رغم أن الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً، شاهدتُ صيف أوربا فى مدن عدة، لكنها كانت تظلم بعد العاشرة. وصلتُ الفندق وأنا أُمنى النفس بحمام ساخن، ثم النوم العميق بعد كل ساعات الطيران والترانزيت، موظف الاستقبال يأخذ وقتاً طويلاً ويخبرنى بأنه لا يجد حجزاً باسمى، أبتسمُ وأناوله ورقة الحجز مطبوعة، فرغم اعتمادى على التطبيقات، فإن جزءاً منى لا يزال ينتمى للمدرسة الورقية القديمة، يتأملها الموظف ويعتذر قائلا: عفواً لكن حجزك فى الولايات المتحدة الأمريكية وليس فى روسيا. أبتسمُ ببلاهة غير قادر على الاستيعاب، وأتمنى أنه على خطأ، فيسترسلُ فى الشرح: هناك فندق بالاسم نفسه فى مدينة اسمها سان بطرسبرج، لكنها تقع فى ولاية فلوريدا الأمريكية، وهذا الخطأ وقع من قبل مع سياح عدة. انهرتُ على أريكة جلدية سوداء فى بهو الاستقبال، مشتت الذهن. لقد دفعت مبلغ الحجز بالكامل، وشروط الحجز تقضى بأننى لو ألغيته فالفندق غير ملزم بإعادة أى مبلغ من قيمة الحجز، ماذا أفعل؟ أين سأنام، كنتُ أختار الفنادق بحيث تكون على مسافة دقائق مشياً من وسط المدينة، هل أجدُ فندقاً بسعر مناسب ونظافته مقبولة خلال هذا الموسم؟ أرسلتُ رسائل واتس آب عدة، لعدد من الأصدقاء الذين أعرف بوجودهم الآن فى سان بيتر، مجموعة من الأصدقاء المصريين أتوا من دبى مثلى، صديق صحفى مصرى أتى من لندن مع وكالة الأنباء التى يعمل فيها لتغطية المونديال، صحفى مصرى روسى يتميز بتغطية الأخبار الروسية لخبرته هنا، وفوراً توالت الردود من الجميع بإرسال روابط لأماكن إقامتهم يدعوننى للمجىء فوراً لمشاركتهم المبيت، و.."الصباح رباح". شكرتهم وجربتُ خدمة أعرف بوجودها ولم أستخدمها من قبل، هى حجز غرفة فندقية عبر تطبيق جوجل للخرائط، وبالفعل وجدتُ فندقاً تبدو صوره وتقييمه جيدين جداً، كما أن سعره مناسب أيضاً، ويبعد 3 دقائق بالسيارة عن موقعى الحالى، لم أصدق، لكننى وجدت أن المتوفر هو 3 غرف فقط، وخلال بحثى انخفض عدد الغرف المتوفرة إلى اثنتين، فسارعت بتأكيد الحجز فوراً، ووصلتنى رسالة تفيد ذلك. شعرتُ بالراحة والامتنان للإنترنت والتطبيقات، ولشرائى شريحة هاتف محلية مع خدمة إنترنت سريعة وباقة إنترنت تكفى شهراً كاملاً، فالاتصالات فى روسيا رخيصة جداً، شكرتُ الأصدقاء الذى يتابعون الموقف، وأخبرتهم بعثورى على بديل مناسب، وطلبتُ التاكسى عبر التطبيق ليحملنى إلى السرير. الفندق يقع فى بناية تبدو تاريخية من الخارج، لكنه حديث جداً من الداخل، كان من المفترض أن أحمل حقيبتى لغرفتى، لكننى طلبتُ من موظف الاستقبال أن يساعدنى، وتفهَّم بعدما اختصرتُ له حكايتى، وصلنا الغرفة وأنا متردد، هل يصح أن أنقده بعض البقشيش أم لا؟ قطع على الشاب النحيل حيرتى بأن تمنى لى ليلة سعيدة وغادر الغرفة مسرعاً. Picture 1 الحمام الساخن، على غير المتوقع انتعشت، ولم أجد رغبة فى النوم، فارتديتُ ملابسى ونزلتُ الدرج لألتقى الشاب الذى يتحدث إنجليزية ممتازة، سألته كيف أتجه لوسط المدينة، فأرشدنى سريعاً ونبهنى إلى أن المطعم المقابل للفندق يعمل على مدار 24 ساعة، وكذلك محل البقالة المجاور له، وأيضاً صيدلية فى شارع موازٍ. سافرتُ عبر مدن أوربية عدة فى 8 دول على الأقل، ولم أجد فى أى منها مطعماً يقدم الطعام على مدار 24 ساعة، هذه إشارة إلى أن سان بيتر مدينة تناسب كائناً ليلياً مثلى، خرجتُ للشارع، الجو بارد قليلاً لكنه منعش وجميل. السماء غير مظلمة، الساعة تجاوزت منتصف الليل بقليل، أطرحُ سؤالاً عبر "جروب واتس آب" للأصدقاء المصريين، الذين أتوا من دبى، فأجدهم وسط المدينة، ويرسلون رابط موقعهم عبر التطبيق، أصلُ لشارع مزدحم بشباب يحملون الأعلام المغربية والإيرانية، وأجدُ الأصدقاء المصريين بصعوبة وسط أمواج بشرية، تزاحمت تغنى وترقص وسط سان بيتر. نجلسُ فى مطعم يسمح بتدخين الشيشة وسط طاولاته الخارجية على الرصيف، فيأتى النادل ليخبرنا بأن تدخين السجائر ممنوع! نغادره إلى آخر يسمح بالتدخين وسط الطاولات الخارجية، يحدثنى الأصدقاء بانبهار عن المدينة، نغادر للالتحاق بمجموعة أخرى، يأكلون فى مطعم شاورما تركى، يديره شاب جزائرى فى روسيا ويعمل به شاب آخر من الكاميرون! إنها العولمة، نكتشف أننا سرنا مسافة أطول من المتوقع، فيعترف الصديق بخطئه، وأن المسافة كانت مقدرة على التطبيق بالميل وليس بالكيلومتر، نصرخ فيه ضاحكين بأنه أوردنا مورد التهلكة، كنا اقترحنا طلب تاكسى، لكنه تقمص دور الشاب الرياضى وطالبنا بالمشى، فالمسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر فقط، وعندما اكتشفنا الخطأ كنا على مسافة نحو 900 متر من المطعم، التأم شمل المجموعة لنفترق فوراً، فالكل منهكون. الساعة الآن الثالثة فجراً، ولم تظلم سماء سان بيتر، وفهمتُ أنها ظاهرة تسمى الليالى البيضاء وتستمر أسبوعاً تقريبا لا تغرب فيها الشمس عن سان بيتر، وتحدثنا عن كيفية الصلاة والصوم وتندرنا على الفتاوى، غرقتُ فى النوم وأنا مبتسم. استيقظتُ على اتصال من صديق، ينهرنى لنومى إلى وقت متأخر، ويطلب الحضور فوراً إلى منطقة المشجعين، مؤكداً أن أحضر معى علم صلاح "علشان نولعها" حسب تعبيره، ابتسمت، ووعدته بالحضور، وصلتُ بعد ساعتين تقريباً، فطقوس الصباح مقدسة بالنسبة لى كى أبدأ يوما جيداً. التحقتُ بالأصدقاء المتجمعين وسط المدينة، لكن الأمطار لم تسمح بأن "نولعها جامد". قضينا وقتاً طويلاً داخل المطعم الإيطالى، الذى وصله أول صديق بالصدفة فتبعناه إليه، ثم قررنا الانصراف، فالأمطار لن تسمح بأى أنشطة تشجيعية، رجعتُ للفندق، رتبتُ ملابسى وأدوات النظافة الشخصية، فصلتُ ما سيتم إرساله لمغسلة الفندق، استلقيتُ على السرير أبحثُ عما يستوجب الزيارة فى هذه المدينة، المتاحف هنا كثيرة وضخمة، لن أزور أى منها، هناك جولة نهرية تبدو خياراً جيداً لو كان الجو صحوا، توقفت الأمطار، الساعة العاشرة مساءً، معدتى تطلب طعاماً، فالبيتزا لم تصمد طويلاً مع جو بارد ممطر. أخرجُ من الفندق، أسيرُ لأمتار قليلة، أقررُ هبوط الدرج لهذا المطعم الذى لمحته أمس، وأجدُ المفاجأة، فى مكان واضح فوق بار المشروبات، ألاحظُ ثلاجة تحوى Aged dry beef أتأكد من النادل، فيجيب بأن قطعة صغيرة أقل من 200 جرام هى فقط المتبقية، الصالحة للتقديم، أما البقية فلا تزال بحاجة إلى شهر تقريباً، أطلبُ طبق الاستيك المكون من هذه القطعة الصغيرة، وأستمتعُ بهذا الطعم. شقراء ترتدى فستاناً أحمر تسألنى بالإنجليزية: مرحباً، من أين أنت؟ ألتفتُ لأجيبها من مصر، وأبتسم، فتستدير لطاولة فى الزاوية لشاب آخر وفتاة وتقول ايجبتن بالروسية، فتبتسم الشابة الأخرى وترفع يديها فرحة، يبدو أنه كان هناك رهان ما وكل من الثلاثة أعطى تخميناً عن موطنى، تدعونى الشقراء لمشاركتهم الطاولة، فأنضم إليهم، هى تخرجت حديثاً فى الجامعة، درست علم الإدارة، وتجد أن كأس العالم فرصة جيدة لتدريب عملى لتحسين لغتها الانجليزية، لم تجد فرصة مناسبة خلال الأيام الماضية، مع المغاربة الذين يتحدثون الفرنسية أكثر، والإيرانيين الذين لم تفهم لغتهم الإنجليزية، الشاب والفتاة الأخرى مخطوبان، وهى صديقة للشاب الذى يعمل فى أحد البنوك، كانوا سعداء بإعجابى الأولى بمدينتهم، وسعدوا أكثر أننى لم أتوقف فى موسكو، ولن أتوقف بها! وقال الشاب نكتة بالروسية فضحكوا وشرحوا لى أنها نكتة شهيرة، تفيد بأنه لا يوجد روس فى موسكو، فهى مزدحمة بكل الجنسيات عدا الروس. سان بيتر هى مسقط رأس بوتين، ورئيس حكومته وعدد كبير من رجالات الدولة، فوصلنا بالنقاش إلى السياسة، ولاحظت أن الشقراء تتخذ موقفاً ضد سياسات بوتين، فهى مع الحريات والديموقراطية، فيما الشاب يؤيد بوتين بقوة، وخطيبته تلتزم الصمت، فيبدو أنها لا تريد إغضاب الخطيب أو الصديقة. حوَّلتُ دفة الحديث إلى الطعام، مثنياً على جودته فى بلادهم، ووجدتهم يشرحون لى مشروباً محلياً يصنع من الخبز لكنه مشروب غير كحولى، بدا الوصف شبيهاً بالبوظة المحلية، التى شارفت على الانقراض فى مصر، استعنتُ بجوجل لأريهم صوراً للبوظة المصرية، فأجابوا بأن مشروبهم مختلف قواماً ولوناً، وسارع الشاب إلى طلب من النادل بالروسية. وجدتُ كوباً من "الكافس" أمامى، تذوقته بحذر، القوام خفيف مثل الكولا، والطعم لاذع تقريباً مع حموضة مقبولة، ربما يبدو غازياً، لكن من دون فقاعات ثانى أكسيد الكربون المميزة للمشروبات الغازية. شكرتهم على الدعوة والوقت اللطيف، ودفعتُ فاتورتى، وخرجتُ أسير لأكتشف هذه المدينة، وأنا أندهش كيف صدقنا أفلام هوليوود التى رسمت صورة نمطية سيئة عن الشعب الروسى، وأنهم أجلاف لا يبتسمون، فما لمسته إلى اليوم مختلف تماماً، هذا شعب مبتسم محب للحياة ومقبل على الآخر، يتمتع بعاداتنا فى الترحيب بالضيوف ودعوتهم وتقديم المساعدة. @MawlanaAlRazi




















الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;