عَرَضَ المؤشر العالمي للفتوى (GFI)، فىدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أحدث تقاريره النوعية، الذى حلل فيه عينة من الفتاوى المتعلقة بالقضايا والموضوعات الطبية.
حيث توصل المؤشر إلى مجموعة من النتائج؛ منها أن الفتاوى الخاصة بالأمور الطبية تمثل (17%) من جملة الفتاوى المنشورة فى العالم بعينة الرصد، وأن الفتاوى الطبية فى مصر جاءت بنسبة (32%) من جملة الفتاوى الصادرة بها، فى حين أنها جاء بنسبة (28%) فى النطاق العربى، تلاهما النطاق الخليجى بنسبة (25%)، وأخيرًا النطاق الإقليمى والدولي بنسبة (15%) من جملة فتاوى كل نطاق.
وأكد المؤشر على ضرورة التنسيق بين المؤسسات الصحية والدينية لبحث المسائل الطبية بصورة علمية وبيان الحكم الشرعي فيها، بالإضافة إلى ضرورة وجود نشرات دورية وقسم في مواقع الفتوى الرسمية يكون معنيًّا بالإرشاد الديني والصحي يشرف عليه مجموعة من الخبراء من كلا المؤسستين.
من خلال رصد الفتاوى الخاصة بالتنظيمات المتطرفة وجد أن حجم الفتاوى المعلنة عنهم لا تحتل نسبة تذكر بالنسبة لفتاوى هذه التنظيمات، وهذا يقودنا إلى احتمالين؛ الأول: أن هذه التنظيمات تتعامل مع الطب على أنه وصفات علاجية لا شأن للفتوى بها، والأمر الثاني: أن الأمور الطبية يتم تداولها عبر غرف مغلقة يتم الإعلان عن جزء منها علانية، والآخر يتم بالخفاء خشية تشويه صورة هذه التنظيمات، خاصة ما يتعلق منها بتجارة الأعضاء على سبيل المثال.
وقد أورد مؤشر الفتوى مثالًا على ذلك بوثيقة داعش التي تضمنت فتوى أجاز فيها استئصال أعضاء بشرية من أسير حي غير مسلم لزرعها في أجساد أخرى مسلمة، حتى وإن كان ذلك معناه موت الأسير، فقد جاء فيها "حياة الكافر وأعضاؤه ليست محل احترام؛ ومن ثم يمكن سلبها منه.. وأنه ما من مانع أيضًا في استئصال أعضاء يمكن أن تنهي حياة الأسير إن هي استؤصلت من جسده". وهذه الفتوى أثارت احتمال أن يكون التنظيم الإرهابي منخرطًا في الإتجار في الأعضاء البشرية، والوثيقة تعد رخصة شرعية لهذه التجارة المحرمة والمجرمة.
وما جاء به داعش أمر مخالف للشرع كما أوضحت دار الإفتاء المصرية من عدم جواز أخذ أعضاء الأسير؛ سواء في ذلك إذا كان أخذ العضو يعرضه للموت أم لا، أو يسبب له ألمًا أم لا، والدليل على ذلك أن الاعتداء على أعضاء الآدمي بصفة عامة فيه امتهان له، وأن هذا الفعل يعد من التمثيل وتشويه الخلقة المحرم، كما أن هذا الفعل يؤدي إلى وفاة المفعول به وهو منافٍ للإحسان المأمور به في الشريعة، لقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.
وأوضح المؤشر العالمي للفتوى أن فتاوى الطب والتداوي الخاصة بمصر جاءت في المرتبة الأولى بين كافة الفتاوى الطبية في العالم بنسبة (32%)، وذلك مثل فتاوى تشريح الحيوانات بغرض الدراسة العلمية، وعملية الربط النهائي للرحم، ونقل أحد أصابع اليد للأخرى وبتر إصبع زائدة، وإجهاض الحمل المشوه، وبيع الأدوية المخدرة، وإخصاء القطط، وبيع الأدوية المهربة، وممارسة الصيدلة لغير المختصين، وتخزين أدوية يحتاجها الناس لفترة حتى ترتفع أسعارها، وتشريح جثة الميت، ونقل الأعضاء... إلخ.
ولفت المؤشر إلى أن النطاق العربي حل ثانيًا وذلك بنسبة (%28)، مثل الفتاوى الأردنية: حكم إجهاض جنين عمره دون الأربعين، وحكم إزالة الثدي كإجراء وقائي، وحكم إجراء عملية التلقيح الصناعي. والفتاوى السورية، مثل: حكم عدم الوفاء بالنذر بسبب المرض، وما الواجب على الأطباء عند ازدحام الجرحى ونقص الكوادر؟ والفتاوى التونسية، كحكم إجهاض الجنين بسبب الفقر وضيق الحال، ودفع الكفارة لمن لا يستطيع صيام رمضان بسبب المرض.
وكذلك الفتاوى العراقية، مثل: حكم عمليات التنحيف للجسم، وحُكم استخدام اللولب كمانع للحمل. والفتاوى السودانية، مثل: حكم الامتناع عن إسعاف المرضى. والفتاوى اليمنية، كحكم استخدام بعض النساء عقاقير لتأخير الدورة الشهرية حتى يتمكنَّ من صيام شهر رمضان كاملًا.
وأضاف مؤشر الفتوى أن النطاق الخليجي جاء ثالثًا بنسبة (25%)، مثل الفتاوى الإماراتية حول حكم استخدام بخاخ الربو في رمضان، وحكم ذهاب المرأة للأطباء الرجال، وحكم العمل لدى طبيب يهودي، وهل سحب الدم للفحوص الطبية يفطر أم لا؟ وحكم إزالة الشعر بالليزر للرجل والمرأة. والفتاوى السعودية، مثل: حكم عمليات شفط الدهون، وحكم إجراء عمليات التجميل، وحكم الوشم لإخفاء تشققات القدمين، وبيع أعضاء الجسد لسداد الديون.
والفتاوى القطرية، خاصة المنشورة بموقع "إسلام ويب" مثل حكم العلاج بالكي، والجراحات التجميلية، ونقل الأعضاء والتبرع بها، وحكم رفع الأجهزة الطبية عن المريض الميت دماغيًّا، وهل التوقف عن الغسيل الكلوي انتحار؟
وبيَّن المؤشر أن فتاوى الطب والتداوي المنشورة في النطاقين الإقليمي والدولي جاءت في المرتبة الرابعة والأخيرة، وذلك بنسبة (15%)، مثل الفتوى الهندية حول التبرع بأعضاء الجسد، والفتوى الماليزية حول تطعيم الأطفال المسلمين، والفتوى الجنوب أفريقية حول حكم الاستشفاء بالحرام إذا لم يوجد دواء آخر غيره، والفتوى البريطانية حول الحكم الشرعي من عمليات التجميل، والأخرى حول استخدام الكحول في بعض المنتجات، وفتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث حول حكم تأجير الرحم... إلخ.
وفي النهاية خلص المؤشر إلى وجود بعض الفتاوى المشتركة بين كافة النطاقات الجغرافية، مثل فتاوى زراعة وبيع الأعضاء، وكذلك فتاوى المرأة الخاصة بالإجهاض لأسباب مختلفة، مثل تشوه الجنين أو الفقر والحاجة أو غيرها، وكذلك فتاوى عمليات التجميل والوشم، وذهاب المرأة المسلمة لطبيب من الرجال، سواء المسلم أو غيره.
في حين انفردت دول بعينها بفتاوى طبية ذات طابع خاص، مثل سوريا، حيث لم تغب الفتاوى عن حالة أبنائها المصابين جراء الأحداث هناك، فذهبت بعض فتاويها إلى حكم التبرع بالدم لعلاج الجرحى والمرضى، وما ينبغي على الأطباء فعله إذا امتلأت المستشفيات بالمصابين، وحكم حج المرضى والمصاب بإصابة تمنعه من التحرك... إلخ.
كما انفردت بعض الدول الغربية بفتاوى طبية معينة، لا سيما إذا كان من طبيعة الدولة بشكل كامل استخراج الأدوية من مواد محرمة، كالخنزير أو الكحوليات وما شابه، فضلًا عن حكم الذهاب لطبيب غير مسلم ومستشفيات الدولة الأجنبية عامة.
وحول موضوعات ومجالات الفتاوى الطبية، كشف المؤشر العالمي للفتوى أن فتاوى المرأة جاءت في المرتبة الأولى بنسبة (40%) وذلك مثل حكم عملية الربط النهائي للرحم، وحكم إجهاض الحمل المشوه، وحكم التدخل الطبي في تحديد نوع الجنين، وحكم إزالة غشاء البكارة لإجراء عملية جراحية، وحكم إجراء عملية لإعادة غشاء البكارة، وحكم التجميل باستخدام حقن البوتكس... إلخ.
وبنفس النسبة تقريبًا (40%) جاءت الفتاوى الطبية العامة في المرتبة الثانية، وذلك مثل فتاوى تشريح الحيوانات بغرض الدراسة العلمية، وحكم نقل الأعضاء، وفتاوى الاستفادة من الخلايا الجذعية في الحيوان والإنسان، وفتوى المصافحة باليد حال تَفَشِّي وباء معين، وفتاوى رفع الأجهزة الطبية عن المريض الميئوس من شفائه، واستعمال العقاقير التي يخالطها بعض النجاسات، وحكم نقل القرنية من متوفى، وحكم بيع الأدوية المهربة وممارسة الصيدلة لغير المختصين... وغيرها.
وجاءت الفتاوى الخاصة بالطفل في المرتبة الثالثة وذلك بنسبة (15%)، وذلك مثل فتوى منع تطعيم الأطفال في الدول الأجنبية، وفتوى بتر الإصبع الزائد في يد أو قدم المولود، وحكم الإنجاب عن طريق أطفال الأنابيب، وحكم فصل التوائم الملتصقة إذا كان في فصلهما موت لأحدهما، وأخيرًا جاءت الفتاوى الخاصة بالرجل بنسبة (5%)، وذلك مثل فتوى زرع شعر في رأس الرجل، وحكم تخصص الطبيب الرجل في النساء والتوليد.
وكشف المؤشر الفتوى أن هناك بعض الفتاوى القديمة تغيرت بالفعل بسبب التطورات الطبية، مثل فتوى عدم التفريق بين الزوجين في حالات الجنون الوقتية أو ما شابه، وكذلك الفتاوى المحرمة لأخذ أنف أو أسنان من ذهب، أو فتاوى قتل قطاع الطرق صعقًا، كما أعطت الموضوعات الطبية المعاصرة فتاوى جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل فتوى زراعة الشعر أو تبرع الإنسان الحي أو الميت بأعضاء من جسده.
هذا فضلًا عن زيادة تفصيلات فقهية جديدة لم نعهدها من قبل، مثل: زيادة علامات للموت لم يذكرها العلماء الأوائل، وجواز قطع الإصبع الزائدة أو البواسير، والعلاج بمستشفيات أجنبية، وذلك في فتاوى الأقليات في الدول الأجنبية وغيرها، وكذلك العلاج بمادة طبية مستخلصة من الخنزير.
وأوضح مؤشر الإفتاء أن من القواعد الفقهية الضرورية لضبط الفتاوى الطبية تتلخص في "قاعدة تحقق المصلحة ودرء المفسدة"، وتعدُّ تلك القاعدة من أهم القواعد التي تحكم النظر الفقهي، إذ المصلحة هي غاية الشريعة، وعليه فكل عمل أو قول لم يحقق المصالح المقصودة شرعًا، فإنه لا تجوز نسبته إلى الشريعة.
وأكد المؤشر أن كل ما تصل إليه الخبرة الإنسانية، من أنظمة وأساليب وعلاج تدخل في إطار تيسير أسباب الحياة على البشر، فإن الشريعة تقره وتقبله، بل وتدعو إلى الأخذ به إذا وجدت المصلحة المعتبرة، لأنه حينها يتفق مع غايتها في تحقيق مصالح البشر على اختلاف درجاتها ومستوياتها، وذلك من خلال الموازنة بين وجوه النفع والضرر.
وذكر المؤشر أن من بين القواعد الفقهية الضابطة للفتاوى الطبية قاعدة: "الجهل بالشرط مبطل وإن صادفه"، فلا بد أن يكون الطبيب عالمًا بما يفعله متخصصًا فيه، خبيرًا بتفاصيله ودقائقه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ« رواه النسائي.
وكذلك قاعدة: "الإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده"، فإذا كان العلاج مأمورًا به ومأذونًا فيه كانت وسائله وما يتوقف عليه مأذونًا فيها أيضًا، وفي ظل المعارف والعلوم والمخترعات الحديثة في مجال الطب والعلاج والكشف عن تلك الأمراض والوقوف على بعض الأمراض قبل ظهورها، ومن أمثلة ذلك: استخدام الوسائل الحديثة في كشف عيوب الأجنة وعلاجها، من خلال الكشف عن التشوهات والعيوب حال وجود الجنين في بطن أمه أثناء شهور الحمل عن طريق بعض الوسائل الآلية والتحليلات المعملية التي تساعد على التشخيص، وهذا الكشف المبكر يساعد في بعض الحالات على تداركها بالعلاج.
كما أوضح المؤشر بعض الضوابط الفقهية الأخرى الداعية للنظر في المستجدات الطبية، منها أن الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل في المضار التحريم، وما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه، وأن الضرر يزال، ولا يُزال الضرر بمثله، كما أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا، كما يجب اختيار أخف الضررَيْن، وأن الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة، وأن المشقة تجلب التيسير... إلخ.
الفتاوى الطبية تحتل المرتبة الثانية بين أكثر 10 مجالات إفتائية استشرافية
وقدَّم المؤشر العالمي للفتوى رؤية استشرافية لأكثر 10 مجالات للموضوعات والقضايا الاستشرافية المطروحة للبحث والدراسة بين العلماء والمؤسسات الدينية، تصدرتها الموضوعات المتعلقة بالعادات والآداب والأخلاق العامة، حيث بلغ عدد موضوعاتها حوالي 62 موضوعًا على مدار العام، فيما جاءت قضايا الطب والصحة والغذاء في المرتبة الثانية بواقع 39 موضوعًا من إجمالي الموضوعات المرصودة.
وأوضح المؤشر أن التطور الطبي الذي نشهده في عصرنا كبير وواسع، ولا شك أن العديد من الفتاوى الفقهية تتأثر بهذا التطور، لذا كان من الأهمية بمكان دراسة تلك القضية بشكل واضح لا لبس فيه، لأثره المهم في صناعة المفتي وإعطاء الفتوى في عصرنا الحاضر.
وذكر المؤشر نماذج من تلك القضايا للبت فيها وإصدار فتاوى استباقية من جانب المؤسسات الدينية الرسمية والهيئات المعنية، مثل حكم لبس الرجال للأساور الطبية النحاسية أو الذهبية المعالجة للروماتيزم، وحكم استخدام بول الآدمي في العلاج أو شربه للتخسيس، وحكم استخدام سم العقارب في علاج الأورام الدماغية الخبيثة وأمراض القلب، وحكم استخدام التعديل الوراثي للتحصين من الأمراض الخطيرة... إلخ.
توصيات
وفي النهاية، أوصت وحدة الدراسات الاستراتيجية، القائمة على عمل المؤشر، بدراسة معمقة لكافة التطورات الطبية المعاصرة دراسة دقيقة، نظرًا لعظيم أثرها في إطلاق الحكم الشرعي والفتاوى الصحيحة المؤصلة المتعلقة بذلك، والتنسيق الدوري بين الهيئات الطبية ونظيرتها الدينية، وذلك عبر عقد ورش عمل طبية يشارك فيها الأطباء والمتخصصون في الدراسات الشرعية.
كما دعت وحدة الدراسات التابعة لدار الإفتاء المصرية إلى معرفة العلماء بواقع التطورات الطبية كل عام مثلًا، والدراية الكاملة لمصدري الفتاوى بالقواعد والمعايير التي تُبنى عليها المسائل الطبية المرتبطة بالفتاوى، والجديد حولها أولًا بأول، ليكون المفتي على بينة من أمره وإحاطته بكافة ما يحيط بالفتاوى الطبية ودراستها واستيفاء أركانها المؤصلة للخروج بالحكم الشرعي الصحيح.
وفي الأخير ناشد المؤشر بأن تخصص المواقع الدينية الرسمية قسمًا يُعنى بالاستشارات والفتاوى الطبية يعمل على مدار الساعة، ويعرض فتاوى استباقية قبل أن تثير بلبلة في الشأن العام وتكون سببًا في إزهاق نفس أو على الأقل معاناتها.