كان خط المترو الثالث مثار حسد عندما افتتحت مرحلته الأولى، القطار شكله الخارجى أكثر حداثة ومنتهى النظافة داخل العربات، كما أنه مكيف الهواء، والمحطات تحفة، مكيفة ومعتنى بها على عكس الخطين الأول والثانى المزدحمين أغلب الوقت، ولذلك دائما ما تكون العربات كالفرن عندما تكتظ بالركاب، الخطين الأول والثانى بعافية شويتين فى الصيانة والاهتمام بالنظافة، والإضاءة ضعيفة بسبب عدم تركيب لمض جديدة مكان اللى اتحرقت فى المحطات أو داخل القطارات، ورغم التعليمات ينتشر الباعة الجائلون داخل عربات هذين الخطين، وفى أوقات الذروة يتحول المترو إلى فرن ساونا فظيع.
أما الخط الثالث البديع حتى الآن فهو نموذج حضارى ولأن آخره مصر الجديدة فنسبة كبيرة من ركابه - نظرا لطبيعة سكان الحى - هم من كريمة ركاب المترو عامة، مظهرهم شيك وسلوكياتهم محترمة ولأنى من زبائن المترو المستدمين منذ الثمانينيات كان الخط الثالث فتحا مبينا بالنسبة لى لقربه من بيتى، أركبه بصفة يومية وأقوم بالتغيير من محطة العتبة، مثل أغلب سكان مصر الجديدة ومدينة نصر، فالخروج إلى ميدان العتبة مغامرة فظيعة لا تحتمل لأنه كوكب فظيع من الفوضى والزحام العجيب.
مشاوير وسط البلد فى الصيف صعبة نهارا وليلا، بسبب الحر والرطوبة التى استجدت منذ سنوات على القاهرة، لهذا تصبح رحلة العودة فى مترو الخط الثالث متعة فى طراوة التكييف مع توفر فرصة الجلوس بسهولة، وكان طريفا وشائكا ذات مرة حديثا دار بين بعض الركاب شاركت فيه مضطرا.
الحكاية أن شابين على أعتاب أواسط العمر ركبا من أول الخط فى محطة العتبة وكان واضح على مظهريهما أنهما من الباعة فى ميدان العتبة يتحدثان بصوت عال عن البيع والشراء ومشاكل التجارة ثم ما لبس أن قال أحدهما للاخر:
- إيه ياخويا البنات البسكوت اللى بيركبوا المترو ده.
- البنات بس.. النسوان كمان بسكوت.
- ياعم دول مش بياكلوا كبده من عند جمعة تلوث.
هنا تدخل شاب صغير بملابس براند، واضح عليه الشقاوة، يحمل رواية باللغة الإنجليزية، يربط شعره الطويل بكحكة خلف رأسه موجها كلامه لهما.. بياكلوا باتون ساليه وسيمون فيميه فرد أحدهما.
- نعم ياخويا
- البنات والستات اللى بتقولوا عليهم بياكلوا باتون ساليه وسيمون فيميه.
- بياكلوا إيه ياخفيف.
- باتون ساليه وسيمون فيمه وأحيانا سوشى.
- أه.. ده فى الجنينة بقى.
- (ساق فيها الشاب) لا مش فى الجاردن.. بياكلوها فى الروسترا وفى الهوم أو يطلبوها دليفرى
- أن ياد إتلم أنا معايا دبلون.. ماتعرفشى تقول مطعم وبيت بدل عوجة اللسان علينا ياروح أمك..إنت جاى تتمأيط علينا يامشمش.. دا انت لسه أخضر يلا.
عند هذا الحد وجدت أن من الأفضل أن أتدخل حتى لايتطور النقاش إلى شجار وتوجهات لهما بالكلام:
- ياشباب الراجل بيهزر مش قصده حاجة.
- هو صاحبنا عشان يهزر معانا ويتعوج علينا.
أدرك الشاب الصغير أنه زودها فقال ياجماعة أنا مش قصدى التريأة.
- فرد أحدهما وهو انت تستجرى تعمل ده يابن امبارح وهنا اضطررت للتدخل ثانية.
- كلكم رجالة زى الفل.. إنتم الاتنين إنتم شابين محترمين شغيله وبتاكلوا لقمة العيش بعرق جبينكم.. يعنى رجاله مكافحين محترمين نعملكم تعظيم سلام.. وهو شاب بيدرس وبيذاكر ناقصه شوية خبرة فى الحياة ومفيش حد أحسن من حد إلا بالجدعنة والذوق
- قوله ياباشا عشان يفهم الصغنن بتاع مامى.
ونهض الاثنان مع اقتراب المترو من محطة عبده باشا والتفت أحدهما إلى من عند الباب وتساءل بخفة دم هو أيه الأكل اللى بيقول عليه دا ياباشا؟
- الباتون ساليه نوع من الكحك فى الفرن الأفرنجى والسيمون فيميه والسوشى نوعين من السمك المستورد.
- ليه هو البلطى والبورى كخة.
- مين قال.. روح عند جمعية الأسماك فى ميدان سفير فى مصر الجديدة حتلاقى الهوانم اللى بتقول عليهم بسكوت واقفين هناك بالطابور يشتروا البلطى المشوى.
نزل الاثنان وتحرك المترو فالتفتا لى وهما فى طريقهما للسلم المتحرك.. وشاورا لى بالتحية، ومع مغادرة المترو للمحطة كلمت الشاب الصغير الذى كان يجلس بجانبى ونبهته.. عيب الأسلوب اللى انت اتكلمت بيه مع الناس.. كنت قد تحاشيت أن أكلمه فور نزول البائعين من باب اللياقة حتى لا يساورهما شك أن فى الأمر نميمة بشأنهم مع هذا الفتى.. ثم سألته من باب الفضول وكانت المفارقة:
- انت اسمك إيه؟
- حسن.
- اسم شعبى جميل.. انت فى سنه كام ياحسن؟
- تالتة آداب إنجلش.
- وبابا بيشتغل إيه ياحسن؟
- عندنا محل سمك فى مصر الجديدة.
نظرت إليه نظرة أعتقد أنه فهمها.. ولم أعلق.