أكد الدكتور إبراهيم الهدهد، رئيس جامعة الأزهر السابق، أن الحق سبحانه وتعالى قد تحدى الإنس والجن كلهم على أن يأتوا بمثل القرآن الكريم ، " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ" ، فعجزوا، فنزل بهم في قدر التحدي ، "قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" ، فعجزوا، فنزل بهم في قدر التحدي قائلًا: " فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" ، وكلما قلّ القدر المتحدى به، كلما كان العجز أظهر، موضحا كيف يعجزون عن الإتيان بكلام من جنس كلامهم ، وحروفهم من جنس حروفهم؟ وكيف يظل الأمر هذا العمر المديد فلا يدّعي أحد أنه يأتي بسورة من مثل القرآن الكريم ؟ متسائلا : ألم يكن بإمكان العرب بدلا من أن ينفقوا الأموال ويبذلوا الأنفس ويريقوا الدماء في محاربة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لو كان سهلًا عليهم أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم ، فيسقطون بها حجته ؛ لأنه يقول : أنا رسول الله ، وحجتي هذا القرآن الكريم ؟، لكنهم لما عجزوا عن ذلك اختاروا السيوف والحروب وإراقة الدماء على أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم .
وأشار الهدهد، خلال الحلقة السادسة لملتقى الفكر الإسلامي الذي ينظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وجاءت بعنوان: " أثر اللغة العربية في فهم القرآن الكريم "، إلى أن العلوم الإسلامية متنوعة ، فهناك علوم وسائل ، وهناك علوم مقاصد ، ولا نستطيع فهم مقاصد الذكر الحكيم إلا بعد فهم علوم الوسائل ، فعلوم الوسائل : كاللغة والمنطق ، وما إلى ذلك ، وعلوم المقاصد : هي علوم أصول الدين ، أي الفقه الأكبر في العقائد ، والفقه الأصغر في الشرائع ؛ ولذلك قام المنهج العلمي في علوم المسلمين منذ البدء على إحياء العلوم اللغوية ، والقاعدة الأصولية تقول : " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "، فإذن لا يتم فهم القرآن الكريم إلا بفهم اللغة العربية والإحاطة بها علمًا ، فصارت علوم اللغة علومًا واجبة التعلم ، وواجبة الفهم ، لمن يريد أن يَرِدَ حِيَاضَ القرآن الكريم ، وأن يقفَ على هذا البحر ، المأدبة الكبرى التي لا يمكن أن تدانيها مأدبة .
ومن هنا كان أول علم نشأ في علوم المسلمين في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ثم امتد في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) هو علم النحو ؛ لأن أبا الأسود الدؤلي أشار عليه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن يكتب مسائلَ النحو، فكتب مسائلَ الفاعل ، وكتب بابَ المفعول ، وكتب بابَ المبتدأ ، وكان ذلك في القرن الأول الهجري ؛ لحاجة الناس حينذاك إلى فهم علوم اللغة العربية ، فحاجتنا اليوم إلى فهم علوم اللغة العربية أشد ضرورة لفهم القرآن الكريم .
كما أشار إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ" ، حيث فهم جماعات العنف والتطرف أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يأمرنا أن نقاتل الناس حتى ينطقوا بالشهادتين ، وهذا فهم غير صحيح ؛ لأن الله (عز وجل) قال: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، فدخول الإسلام يكون بالرغبة لا يكون كرهًا أبدًا، لأن الله لا يقبل أن يعبده كارهٌ له، فلو أخذنا الحديث على محمله الذي يأخذونه عليه، ترتب على ذلك دماء، بل إنهم يخرجون المسلمين إلى الكفر بناء على هذا الفهم غير الصحيح للغة الحديث الشريف . فهناك فرق كبير بين: " أمرت أن أقاتل" ولم يقل : أمرت أن أقتل ؛ لأن " أقتل" فعل صادر واقع من فاعل على مفعول به ، وأما "أقاتل" فهي صيغة مشاركة ، أي : أقاتل من يقاتلني ، وحينما أقاتل من يقاتلني إذا قال : لا إله إلا الله ، لا بد أن يتوقف القتال ، فالحديث لوقف الدماء وليس لإراقة الدماء ، من أجل ذلك استخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صيغة المشاركة التي تدل على طرفين ، إذن فالفهم الصحيح للغة هو الذي يبلغ المقاصد ، ولذلك تجد القرآن الكريم قائم على أمر ونهي ، افعل ولا تفعل ، فلا غنى لمسلم يريد أن يفهم القرآن من تعلم علوم اللغة العربية، مشيرًا إلى أنه لا تؤخذ الفتوى إلا من أصحابها ممن يحيطون بعلوم الوسائل وعلوم المقاصد ، المشهود لهم بالاجتهاد ؛ لأن فوضى الفتاوى أدت إلى خراب في حياتنا .
وفي ختام كلمته أكد رئيس جامعة الأزهر السابق، أن القدر المطلوب من تحصيل علوم اللغة العربية يكون على حسب الغرض ، فهو يختلف من العامة، إلى الداعية إلى الفقيه، فإذا ارتقينا للإمام والخطيب فنقدم له أبواب النحو العامة كلها التي تجلي له النمط القرآني، وكذلك قدر من البلاغة لفهم حلاوة القرآن، وأيضًا علم المعاجم الذي يستطيع به أن يصل إلى معاني الألفاظ ، وكذلك علم الصرف الذي يهتم ببنية الكلمة ، وأما الفقيه فيأخذ علوم اللغة كلها
وقد قال الإمام الشافعي : وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ " .
وفي كلمته أكد الدكتور صبري الغياتي - مدير عام المساجد الأهلية بوزارة الأوقاف أن القرآن الكريم جاء على سنن العرب في لغتهم وطرائقهم في الاستعمال ؛ فلا بد من إدراك أسرار العربية حتى يكون فهمنا للقرآن صحيحا ، فالقرآن الكريم إنما نزل بلغة العرب لأن هذا اللسان العربي يمتلك من الخصائص والمقومات ما لم يمتلكه لسان آخر، ولا تمتلكه لغة أخرى، والكلمة في اللغة العربية تفيد بأصل مادتها، ثم باشتقاقات هذه المادة ، وتفيد كذلك بصياغاتها المختلفة ، كما تفيد بعد ذلك بتعريف اللفظ أو تنكيره ، وتقديمه أو تأخيره ، وذكره أو حذفه ، وهكذا... فالكلمة في اللغة العربية أوسع دلالة من غيرها من اللغات الأخرى ، فكل معنى يستدل عليه في اللغات الأخرى بألفاظ تخصها بالوضع اللغوي ، أما في اللغة العربية فإنه يستدل على المعاني بخصوصيات الكلمات وأوضاعها، وكيفيات تخص النظم؛ ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظا وعبارات عن جميع الألسن.
كما أشار الغياتي إلى أن العرب قد أعطَوا للغتهم أهمية خاصة، وعنوا بها عناية فائقة، ولم يعرف التاريخ البشري أمة أقامت معارض وأسواقًا للكلام غير أمة العرب، فقد كانت لهم أسواق يعرضون فيها أشعارهم ،كعكاظ وذي المجاز وذي المجنة وغيرها ، ومن هنا نزل القرآن الكريم يتحدى العرب بمعجزة من جنس ما برعوا فيه ، تحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، فنزل بهم في التحدي درجة، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فلم يستطيعوا ، فنزل بهم في التحدي درجة أخرى ، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله أو بأقصر سورة فلم يستطيعوا، واتسعت دائرة التحدي لتشمل العرب والبشرية كلها، بل لتشمل الجن والإنس فقال: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا".
كما أكد أن اللغة العربية لغة إشراقية ومضيئة ، ومن تكلم العربية فهو عربي ، مستشهدا بقول الله (عز وجل) : " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " ، مشيرًا إلى أنه لابد لمن يخاطب الناس ويفتي لهم أن يكون عالما بلغة القرآن الكريم وآدابها ، ولقد أوصى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بتعلم اللغة العربية بقوله: " تعلموا العربية فإنها من دينكم " فالقرآن الكريم حفظ لغة العرب وأثره فيها باق على مر العصور والأزمان ، وأن إدراك أسرار العربية هو الأساس في فهم مقاصد القرآن والسنة ، والجهل بأسرار العربية سبب في الضلال والانحراف ، فإنما ضل المنحرفون بسبب جهلهم بأسرار العربية ، وبعدهم عن اللسان العربي ، فالقرآن الكريم له نواح كثيرة من الإعجاز ، فهناك الإعجاز اللغوي أو البلاغي، وهناك الإعجاز العلمي ، والرقمي، وغير ذلك من أنواع الإعجاز التي تكلم فيها العلماء، ومهما استجد على البشرية من علوم ومعارف؛ فإن القرآن الكريم يسبقها ويقرر حقائقها؛ مصداقا لقوله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"، على أن كل إعجاز في القرآن الكريم يعتمد أولا على الإعجاز اللغوي والبلاغي للقرآن ، مشيرًا إلى أن القرآن الكريم معجز بنظمه لا بلفظه ؛ لأن اللفظ العربي تجده في القرآن كما تجده في لغة العرب هو هو ، ولكنه في القرآن الكريم في الدرجة العليا من البلاغة والإعجاز ، والفارق هنا هو موضع اللفظ من الكلام، فالكلام لا يكون معجزا حتى يعمد به إلى وجه دون وجه من التركيب والتأليف، وهذا هو النظم الذي أقره علماء البلاغة قاطبة ، وهو النظم الذي تميز به القرآن الكريم عن كلام البشر .