أكد الدكتور محمد نبيل غنايم، استاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، أن المراقبة وإتقان العمل ثمرة من ثمرات الصوم الحقيقي ، وهي من أهم القيم السامية والأخلاق الفاضلة التي دعا إليها الإسلام ، فهي طريق الإخلاص الذي هو أساس قبول العمل عند الله (عز وجل) ، والحق سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه.
وأشار غنايم، خلال الحلقة الحادية عشرة لملتقى الفكر الإسلامي الذي ينظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وجاءت بعنوان : " رمضان شهر المراقبة وإتقان العمل "، إلى أن الله (عز وجل) حثنا على مراقبته في كل أحوالنا وتصرفاتنا ، فقال سبحانه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
كما أكد أن المراقبة هي استشعار العبد معية الله سبحانه وتعالى ، وهي متحققة في جميع العبادات ، وفي الصيام بالدرجة الأولى ؛ لأنه لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما فسره الحديث الشريف : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعَفُ ، الحسنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ . قَالَ الله تَعَالَى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي" ، فالصيام يربي النفس على مراقبة الله (عز وجل) في السر والعلن ، حيث يغرس في نفس الصائم الصبر على طاعة الله سبحانه ، ويعلمه قوة الإرادة ، وضبط النفس ، ففي كثير من الأوقات يكون الطعام والشراب بين يدي الصائم بعيدًا عن أنظار الناس ، ومع ذلك يمتنع عن تناولهما خوفًا من الله (عز وجل) وخشية منه سبحانه ، وعلمه بأن الله تعالى يراه ، ومطلع عليه في سره وعلانيته .
و أشار غنايم إلى أن المراقبة عبادة مستمرة في كل قول أو فعل ، وهي في كل العبادات يجب أن تتحقق ، ففي الصلاة بإتمام أركانها وشروط صحتها وسننها ، وفي الزكاة كذلك فلا يُخرج الإنسان زكاة ماله رياء ، أو ليقال أنه جواد وصاحب عطاء وبذل ، بل يخرجها ابتغاء وجه الله (عز وجل) ، وكذلك في الحج ، حيث يستحضر الحاج مراقبة الله (عز وجل) في كل المناسك والشعائر ، موضحا أن المراقبة كما تكون في العبادات ، تكون أيضًا في الأقوال ، قال تعالى: " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" ، ومن ثم فيجب علينا جميعا ونحن في شهر الصوم أن نستشعر مراقبة الله تعالى في السر والعلن ، فلا ينتظر أحدنا رقابة البشر ، بل يراقب كل منا ربه فيما ولاه عليه ، لتحيا قلوبنا ، وتستيقظ أرواحنا ، وتستقيم حياتنا ، فتنهض الأمة وترتقي ، فإن سعادة المجتمع وتقدمه مرهونة بيقظة ضمائر أبنائه ومراقبتهم لله (عز وجل).
وفي ختام كلمته أكد استاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، أن الصيام لا يمنع إتقان العمل ، وليس فيه أي نوع من أنواع التكاسل ، فرمضان هو شهر الجد والنشاط ؛ لأنه وقع فيه أعظم الانتصارات ، يوم بدر ، وفتح مكة ، وعين جالوت ، والعاشر من رمضان ، مما يدل على أن الصيام سبيل القوة مع الله (عز وجل) ، ومع الأعمال . والله سبحانه وتعالى قد ربط بين العبادات وبين المعاملات في إتقان العمل ، فالمراقبة سبيل رئيس للإتقان في العمل؛ حتى يعود أثر ذلك على الاقتصاد والتنمية ، وتحقيق المصلحة العامة ، فحين يستحضر الإنسان قيمة المراقبة ، فإنها تؤدي به إلى الإتقان في العمل ، وهذا ما أكّده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث قال : " إن الله عز و جل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " ، وهكذا فلا بد من تمثل الأخلاق المحمودة في العمل ؛ لنجد إنتاجًا قويًّا ثريًّا يدفع الاقتصاد ، ويترتب عليه التنمية ، مشيرًا إلى أننا في أشد الحاجة إلى أن نؤصل لإعلاء قيمة العمل ومراقبة النفس ، فإتقان العمل ينقل الأمر من إفساد يرفضه الكون إلى صلاح يحبه الكون .
وفي كلمته أكد الدكتور عبد الخالق صلاح، إمام وخطيب بالأوقاف، أن الصوم تهذيب للنفس وتربية لها على السلوك القويم ، وشهر رمضان مدرسةٌ عظيمةٌ تربي في المسلم مراقبة الله (عز وجل) في السر والعلن ؛ لأن الصيام بين العبد وربه ، وأخص ما فيه المراقبة لله (عز وجل) ، مصداقًا لقوله (صلى الله عليه وسلم) : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" ، وقد حفل القرآن الكريم بالآيات التي تدل على مراقبة الله للعبد ، كما أنها اسم من أسماء الله الحسنى ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وقال عز وجل: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}، فالحق سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، يقول تعالى: {ومَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
كما أكد صلاح، أن رقابة المسلم لله ــ سبحانه وتعالى ــ هي قضية إيمانية تمثل الإخلاص وترتبط بالإحسان ، كما في الحديث الصحيح " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، فالمسلم يعبد الله على هذه الصفة ، وهي استحضار قربه ، وأنه بين يدي ربه كأنه يراه ، وذلك يوجب الخشية ، والخوف ، والهيبة ، والتعظيم .
فإذا راقب الإنسان ربه في كل أحواله انضبط سلوكه وتصرفاته ، وحسن عمله واستقامت حياته ، سواء رآه الناس أم لم يروه ، وسواء أثنوا عليه أم لا ، فلا يظلم نفسه ولا يظلم غيره ، حتى وإن غابت عنه رقابة البشر ، فمراقبة الله تعالى في السر والعلن تعصم الفرد والمجتمع من الزلل ، فحين خرج عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ذات ليلة يتفقد أحوال رعيته وقرر أن يستريح بجانب بيت ما ، فإذا امرأة تقول لابنتها يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء ، فقالت لها : يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اليوم ? قالت : وما كان من عزمته يا بنية? قالت : إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء ، فقالت لها : يا بنية قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء ، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر ، فقالت الصبيَّة لأمها : يا أُمَّاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء ، كل ذلك وأمير المؤمنين يستمع، وقد سره أمانة الفتاة ، وضميرها الحي ، فاختارها زوجة لابنه عاصم ، وكان من ذريتها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) .
وفي ختام كلمته أكد الدكتور عبد الخالق صلاح، أنه لابد من تربية ضمير حي في كل إنسان يأخذ بيده نحو مراقبة الله تعالى ، فالمراقبة هي ثمرة علم الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى ناظر إليه، رقيب عليه ، مطلع على عمله ، سامع لقوله في كل وقت وحين ، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، وهذا ما حدث مع الراعي الذي قال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): بعني شاة من هذه الغنم ، فقال : إني مملوك وهذه الغنم لسيدي ، فقال عمر: – اختبارا له- قل لسيدك أكلها الذئب ، فقال الراعي: إذا قلت لسيدي هذا ؟ فماذا أقول لربي يوم القيامة ؟ فبكى عمر بن الخطاب ، واشترى هذا العبد من سيده وأعتقه ، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة ، وأرجو أن تعتقك في الآخرة .