قال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: "إن أكبر خطأ نقع فيه جميعًا أن نظن أن المعركة قد انتهت، وأنه لا داعي أبدًا لمناقشة الأفكار الضالة ونستهين بالفكر المتطرف، ذلك لأن عواقبه خطيرة، ومن شأنها أن تضيع كافة الجهود التي تبذلها الدولة في مجال التنمية، مؤكدًا أن هذه الجماعات المتطرفة لا تمل أبدًا من عملية استعادة الأفكار المتشددة في صور مختلفة بوسائل مختلفة تخفى على عموم الناس".
وأوضح المفتي، أن قضية استعادة وعي الأمة كلها قضية مصيرية، وأن حروب الأفكار والمفاهيم أصبحت لا تقل في خطرها عن حروب الأسلحة المدمرة، ووجَّه المفتي خطابه للشباب قائلًا: "الأمل في الجيل القادم الذي سيتسلم الراية، الرهان عليكم أيها الشباب!"
جاء ذلك ضمن فعاليات ندوة "صحح أفكارك.. احمِ بلدك"، ببني سويف، حيث أكد المفتى أن المعركة الكبرى التي نخوضها في مصر والعالم هي معركة الوعي وتصحيح المفاهيم.
وأشار المفتي، إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل والقدوة في حب الأوطان وتحمل الكثير من أجل الدعوة، حتى إن قومه أخرجوه وهو حزين لأنه كان يحب وطنه حبًّا شديدًا، وقال وعيناه تذرفان قولته المشهورة مخاطبًا مكة: "والله إنك لأحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت"، فنزلت الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].
كما تناول المفتي هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ووضعه لوثيقة المدينة المنورة التي تعد أول وثيقة للمواطنة والعيش المشترك، موضحًا أن الرحمة تجسدت في شخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمها لنا في صورة واضحة عندما قال: "إنما أنا رحمة مهداة"، مشيرًا إلى أن عنوان الإسلام هو الرحمة واللين والسلام ولا يتصور من المسلم أن يصدر عنه ما يخالف ذلك.
وأضاف مفتي الجمهورية: "ابتُلينا بمجموعات متطرفة شوهت صورة الاسلام وأظهرته بصورة عدوانية وفهموا الدين فهمًا مغلوطًا، ومن ثم وجب على العلماء القيام بواجب تصحيح الصورة"، لافتًا النظر إلى أن أول من بدأ هذا التشويه رجل يسمى ذا الخويصرة، حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اعدل)، وهي كلمة شديدة في حق الجناب النبوي، فقال له صلى الله عليه وسلم: "ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل"، فقالَ عمرُ: دعني يا رسولَ اللَّهِ حتَّى أضربَ عنُقَ هذا المُنافقِ! فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: "إنَّ هذا في أصحابٍ أو أُصَيحابٍ لَه يقرءونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقيَهُم يمرُقونَ منَ الدِّينِ كما يمرُقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّةِ".
وتابع المفتي: "كانت فتنة الخوارج على عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بكل ما دار فيها من خلافات عاصفة بلغت أشدها بتكفير الخوارج للصحابة الكرام بالخروج من الإسلام، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى وتطبيق أحكام الجاهلية والحكم على جميع الناس بالكفر إلا من كان على رأيهم الفاسد.
وهنا أرسل إليهم سيدنا عليٌّ حبرَ الأمة ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وحاورهم وناقشهم وأجابهم عن كل شيء وقال لهم: جئتكم من عند أمير المؤمنين؛ أي جئتكم من عند الدولة، وجئتكم من عند صحابة رسول الله؛ أي جئتكم من عند المنهج العلمي الرصين، ولستم أنتم أصحاب منهج، وأخرج عددًا كبيرًا منهم بالنقاش الهادئ من الظلمات إلى النور، وبقي جماعة منهم على مبدأ محاربة المجتمع واستحلال الدماء والأعراض والأموال، فكان سيف علي رضي الله عنه وأرضاه هو الدواء الشافي؛ حمايةً للأمة من انتشار هذا الخطر المحدق المتمثل في جماعة الخوارج المارقة، الذين تستروا خلف دعوى الحاكمية وجاهلية المجتمع واستحلوا بتلك المقالات الفاسدة دماء الناس وأعراضهم.
وقال المفتي إن هناك سمات مشتركة بين موجات التطرف عبر التاريخ، منها مثلًا أنهم عمدوا إلى آيات من القرآن الكريم نزلت في مشركي مكة وأنزلوها على المسلمين، فقتلوا المسلمين وغير المسلمين؛ إذ على حد كلامهم الإسلام غاب منذ زمن طويل، وعادت الجاهلية، والشريعة لم تعد مطبقة. وأشار إلى أن هناك خللًا في فهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فتعمدوا التشويه في كلام الجانب النبوي.
وأوضح المفتي، أن قرار الحرب بيد الدولة وبإجماع الأمة، فالقتال لا بد أن يكون تحت راية الدولة والجهات المختصة، ولا يمكن أن يكون بيد أي أفراد أو مجموعات مهما بلغ عددها، مؤكدًا أن الإسلام انتشر بالأخلاق وفتح القلوب بالسلوك الإنساني المهذب، مشددًا على أن الجهاد له معانٍ كثيرة، من أهمها الإجادة والإتقان في كل مجالات الحياة، كذلك احترام حدود التعامل وغض البصر وعدم التحرش.
في إطار آخر، أوضح المفتي: أن عقل طالب الجامعة لا بد أن يكون عقلًا ناقدًا فارقًا لا يقبل الانسياق وراء الشائعات والأكاذيب، موضحًا أن الجماعات المتطرفة توسعت في مفهوم البدعة حتى ضيَّقت واسعًا.
وفسر المفتي معنى البدعة المذمومة بأنها ما يبطل الدين وما كان على خلاف الشرع الشريف، والنعت بالبدعة يقود إلى النعت بالفسق وبعدها التوسع في الكفر وإباحة القتل، موضحًا أن الشريعة حاضرة وموجودة وليست غائبة ومطبقة في مصر بالدلائل والوثائق، ومصر محفوظة بحفظ الله.
واستطرد المفتي إلى شرح فهم المتطرفين، مؤكدًا أنهم فهموا العلاقة بين المسلم وغير المسلم بأنها علاقة صدامية ويحكمها التنافر، في حين أن الرسول ضرب لنا أروع الأمثلة في حسن العلاقة مع وفد نصارى نجران، وفي أثناء النقاش حانت صلاتهم وسمح لهم النبي بالصلاة في مسجده الشريف، ومات صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي.
وأضاف أن دار الإفتاء من خلال مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لها، قد أصدرت دراسة تحت عنوان "فتاوى ازدراء المسيحيين.. أحكامٌ لتفتيت الأوطان"، عبارة عن دراسة وصفية قامت برصد وتحليل أهم الفتاوى التي صدرت حول أحكام التعامل مع المسيحيين ودور عبادتهم، انطلاقًا من رسالة دار الإفتاء برصد كل الفتاوى الشاذة والآراء المتشددة، التي تحتاج إلى دراسة وبيان. وتابع: رصدنا مجموعة كبيرة من الفتاوى، تم اختيار 5500 فتوى منها كعينة للدراسة؛ نظرًا لأن العديد منها يحمل الموضوع نفسه كالسؤال عن حكم تهنئة المسيحيين بعيدهم، أو حكم بناء الكنائس، حيث صنفت الدراسة هذه الفتاوى إلى موضوعات عامة تضم تحتها موضوعات خاصة مرتبطة بالموضوع أو مرتبطة بالحكم الشرعي.
كما تطرق المفتي إلى الحديث عن قدسية علاقة الزواج، مؤكدًا أن الإسلام والأديان عمومًا تحث على الاستقرار الأسري وتؤكد على قدسية الزواج، وهناك سلوكيات خاطئة يمكن أن تهدم هذا الاستقرار، كما أن ثقافتنا في الطلاق خطأ، محذرًا من رعونة الزوج الذي يتلفظ بألفاظ الطلاق مرارًا وتكرارًا؛ لأن الطلاق يمثل علاجًا إذا استحالت العشرة بين الزوجين.