دكتور حاتم العبد يكتب ..سلفيّو مصر والسياسة: بين تضاربية المواقف وضبابية الرؤى والتباسية المشهد وضياع الهوية (١)

ألِف الإنسان الظواهر الكونية من أعاصير وفيضانات وبراكين وزلازل وما إلى ذلك، وبات يتوقعها ويعد العدة لها، ويتكيف مع توابعها ويتقبل نتائجها، أمّا ما أحدثه سلفيّي مصر، فهو ظاهرة تستعصي على الفهم وتتمرد على الإدراك وتُحير العقل وتشرد الذهن وتعصف بما عُهد عنهم، إنها مزيج من أعاصير وبراكين وزلازل في آنية الوقت بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

لم يكن بمكنة أحد لا يملك عصا موسى، أن يتخلى عن ثوابته ويتخلص من موروثاته ويعصف بمبادئه، ويغير في اتجاهاته الفكرية والعقدية في يوم وليلة إلا سلفيّي مصر، ولم يكن بمكنة أحد لا يملك عصا موسى أن يصدق ما يحدث من حوله دون شتات عقله ودون أن يضرب كفا على كف متمتما بسبحان الله ومرددا لله في خلقه شؤون.

أن تسكن قصرا بعدم شببت على العيش في خيمة أو العكس، لهي مادة خصبة وضرورة حالّة للدراسة والتحليل والتفكر والتدبر. أن تتسنم هرم السلطة بعدما كنت تكفر بها، أن ترتدي ثوبا أفتيت بنجاسته، وأن تستخدم مفردات صنفتها أنت مفردات الشيطان، وأن تترك حزب الله لتلتحق بحزب الشيطان، لهو أدعى للدراسة، لكي نعلم إلى أي طريق نحن سالكون، وإلى أي مصير نحن ذاهبون، كي نحافظ على مصر ونرعى مصالحها ونبني حاضرها ومستقبلها.

حصل حزب التيار السلفي الذي تشكل بعد ثورة يناير، حزب (النور)، في برلمان ٢٠١١ على عدد ١٢٢ مقعدا من أصل ٤٩٨ بنسبة ٢٢ % حالّا ثانيا كأقوى كتلة برلمانية بعد حزب الحرية والعدالة، بينما حصل على عدد ١١ مقعدا من أصل 526 بنسبة ٢ % مُتزيلا بذلك الكتل البرلمانية في برلمان ٢٠١٤.

لكي تتضح الصورة جليّا، ولكي نحلل تلك الظاهرة غير المسبوقة ونتدبرها جيدا، دعونا نتتبع التطور الفكري السياسي السلفي من أوله، وبمكنتنا تقسيم هذا التطور النوعي إلى ثلاث مراحل، مرحلة ما قبل ثورة يناير، ومرحلة ما بعد يناير إلى ٣٠ يونيو ثم أخيرا وليس آخرا، مرحلة ما بعد ٣٠ يونيو.

تُملي علينا قواعد الموضوعية وتفرض علينا قواعد الحيادية، أن نوثق كل استشهاد بمعلومة، وأن نرده إلى أصله، ولسوف يلمس القارئ الكريم ذلك طيلة تلك السلسلة من المقالات.

يمتزج الفكر السياسي السلفي بالفكر الديني، ولا نجد حدود فاصلة بينهما، تتشابك التخوم وتتداخل الحدود، لدرجة أن بعضهم لا يفهم هذا الفكر، هو يتْبع ليس أكثر، ليس بالسهل الخوض في هذا المزيج، لاستخراج المبادئ السياسية لديهم، لكننا نحاول فعل ذلك، ونتلمس أهمها.

وما دام التيار السلفى قد ارتضى خوض غمار السياسة، وقبوله العمل العام، فعليه أن يتحلى بسعة الصدر، ورحابة الأفق، لكل نقد أو مديح، وهو مدعو للإجابة إن أراد، بل ومرحب به، على هذه المقالات...

استقصاءً للفكر السلفي، نلحظ تطورا مهما في فكرهم، فمن حُرمة الخروج على الحاكم، وتقديسه، والالتحاف بعباءة المظلومية، كان ذلك حتى ثورة يناير المجيدة، ورفضهم الثورة بداءة، وما أن شعروا بنجاحها، وبأن جموع المصريين التقت على كلمة واحدة، والتفّت حول شعار واحد، عيش حرية عدالة اجتماعية، حتى أن انسلخوا من عباءة تقديس الحاكم وحرمة الخروج عليه، للحاق بركب الثورة وحجز مكان مزعوم في صنعها وريادتها، بل استطال الأمر للتخلي عن الزهد في السلطة، للاقتتال في سبيلها.

نبتدأ دراسة التجربة السياسية السلفية، بتقصي الحقائق المستقاة من أدبياتهم وأعلامهم وأمهات كتبهم وتراثهم، لعلنا نصل إلى فهم تلك الظاهرة فريدية النوع ونادرية الحدوث إن لم تكن أوحديته.

مرحلة ما قبل ثورة يناير : مخاصمة التطور و الْكُفْر بالسياسة وتقديس الحاكم

مناط الفكر السلفي هو الاقتداء بكتاب الله وسنة رسوله بفهم الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، عملا بالحديث الذي أورده البخاري ومسلم «عن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، إلى ذلك لا توجد مشكلة، فمن من المسلمين لا يريد اقتداءا بالرسول وصحبه وصحابة صحبه؟ على العكس، نتمنى أن يسلك الجميع مسلك السلف الصالح مُقتديا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لكن المشكلة تتأتى من كونهم توقفوا عند القرون الثلاثة الأولى فقط من عمر الإسلام، ومن هنا كان عدائهم للفقه والاجتهاد وأي تطور، قوام التيار السلفي إذن هو المخاصمة العلنية والصريحة للتطور، والرفض القاطع لكل دعوة له، بل وتكفير القائل به : "المنهج السلفي بهذا المعنى لا يحتمل التطور ولا التبدل، بل هو متجاوز للزمان والمكان والأفراد والجماعات، والتبديل فيه والتحريف بدعوى التطوير جرأة وافتئات على الشرع"، كانت تلك الكلمات تصريحا لياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية لموقع إسلام أون لاين يوم ٣٠ يونيو ٢٠٠٨.

ينبثق عن معاداة التطور فكرتان أساسيتان، الفكرة الأولى محاربة فكرة البدعة لأن «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، فمن يأتي بأمر جديد في الدين فهو مبتدع، وكل مبتدع ضال وكل ضال في النار، وبما أن التطور بدعة، فهو وصاحبه في النار.

نعم نتفق في تلك النقطة وتتلاقى آرائنا وتتقاطع اتجاهاتنا، فمن يقبل ببدعة في دينه؟ ومن يقبل إضافة أو حذفا له أو لجزء منه؟

تتقاسم فكرة الفرقة الناجية تسنم هرم المبادئ السلفية مع فكرة البدعة، ومفادها أن السلفية ترى نفسها هي الفرقة الناجية الوحيدة من المسلمين، أما باقي الفرق فهم في النار.

هاتين الفكرتين كانتا المصدر الرئيس لكل الجماعات التكفيرية والجهادية، وتلك الجماعات تتبع في فلسفتها التعيين والإسقاط، أي أنهم يكفرون أناس بعينهم ويسقطون عليهم حكم الابتداع ومن ثم وجوب المحاربة والقتال. والجهاد في أدبياتهم هو جهاد طلب وليس جهاد دفع، بمعنى أنه يصنفك عملا بالتعيين والإسقاط ثم لا ينتظرون منك أن تبدأ بالقتال أو الخصومة، فهذا مفترض في جانبك، ومن ثم وجب محاربتك.

أمّا الجماعات السلفية المسالمة، فهي تبتعد عن التعيين والإسقاط، وتكتفي بالتنظير، دون تحديد شخص بعينه، أو تسمية جماعة أو فرقة، فمثلا يعتقدون بحرمة الديمقراطية لكنهم لا يشيرون لحزب بعينه أو شخص بالكفر، بمعنى كل من يشتغل بالسياسة فهو كافر.

نلحظ مما سبق أن الفكر السلفي توقف عند القرون الثلاثة الأولى للإسلام، وغير مسموح لأي شخص كائنا من كان أن يضيف لذلك، أو أن يطور فيه أو أن يفهمه بمعنى آخر.

وثيق الصلة بالنقطة السابقة، موقف السلفية من الديمقراطية، فبما أنها تطور وبما أنها بدعة فهي والمُشتغل بها في النار، فالسلفية لا تعترف إلا بحزبين هما حزب الله وحزب الشيطان، وعليك أنت المسلم أن تختار لأيهما تنتمي.

يتحفنا ياسر برهامي ببحث بعنوان "السلفية ومناهج التغيير" قائلا "أن البرلمان مخالف للشريعة فالتشريع حق من حقوق الله وليس العباد وتشريع غير الله كفر والمجالس التشريعية قوانينها كفرية، كما أن الأحزاب تقوم على أساس علماني ديمقراطي اشتراكي ليبرالي، فكيف تشرع إذًا؟".

استطرادا لتحريم الديمقراطية أردف في حواره المُشار إليه : "وفي الحقيقة فإن كلمات مثل العمل السياسي، والديمقراطية، والتعددية، كلمات براقة لا حقيقة لها، ولا نصيب لها من التطبيق حتى عند من يزعم اعتناقها والدفاع عنها. ثم إن الدعاة إلى الله يقيسون الأمر بموازين شرعية بعيدًا عن قياسات غيرهم ممن يزعمون الفهم والإدراك السياسي. وفضاء الدعوة إلى الله أرحب بكثير من هذه الأطر الضيقة الخانقة قليلة النفع والتأثير".

مؤكدا على أن من يعمل بالديمقراطية يكون على حساب مبادئ وتنازلات : "أما مشاركتنا نحن في هذه اللعبة السياسية فإذا كان هذا حال من عنده استعداد للتنازل، فما بالك بمن يقدم شرطًا مسبقًا وهو عدم التنازل وعدم دفع الضريبة الجبرية؛ هل يسمح له بالمشاركة وفق ضمانات حقيقة بقطع الشوط الديمقراطي حتى نهايته؟!".

وفي سؤال له عن رأيه في التعددية الدينية، وقبول الآخر، والحوار، والتعايش، أجاب قائلا : "وأما بالنظر المدقق المتفحص لهذا الدعاوى والألفاظ، فهي لا تعدوا كونها النسخة الأخيرة من دعاوى وحدة الأديان، وقبول الإلحاد، إلى غير ذلك من المصطلحات سيئة السمعة التي استبدلوا بها هذه المصطلحات البراقة كنوع من الترويج لها؛ وعلى الرغم من تأنقهم بهذه الكلمات إلا أنه “قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر”، “ولتعرفنهم في لحن القول”. فخذ وصفهم من خالقهم “ولا ينبئك مثل خبير”".

وبما أن القاعدة الأصولية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن الخروج على الحاكم حرام، وعلى المواطنين السعي لتغيير أنفسهم قبل السعي لتغيير الحكام وقد أفتت مرارا الدعوة السلفية بحرمة المظاهرات المناهضة للحاكم، لكنهم ارتضوا ظلمه إن ظلمهم وعدله إن بسطه لهم.

امتازت مرحلة ما قبل يناير ٢٠١١ إذن بالثبات على مبادئ تكفر بالديمقراطية وتحرّم الخروج على الحاكم، حتى وإن كان هذا الحاكم ظالما باطشا، فما دام أن الديمقراطية هي حكم الشعب، ولما كان أن أصل الدين الإسلامي هو أن الحكم لله، فالديمقراطية حرام، ذلك أننا لو سمحنا بذلك نقوم بإعلاء كلمة العبد وإرادته على كلمة الله وإرادته وهذا ما لا يجوز.

ومن هنا هنأ التيار السلفي المسالم متى التزم بتعليمات الحاكم، ولم توجد ثمة خروقات تذكر لشهر العسل الممتد منذ سنوات.

جدير بالذكر أن التيارات السلفية تتفق جميعها على معاداة الأزهر المُبتدع ووجوب غلقه، والاستعاضة عنه بالتقوقع حول أعلامهم وأئمتهم فقط، ولنا عودة لاحقا حول تلك النقطة.

تخبطية الموقف بين تحريم الديمقراطية وفي نفس الوقت تحريم الخروج على الحاكم، كان ذلك هو السمة الغالبة والعنوان الرئيس للتيار السلفي المسالم حتى ثورة يناير.

يتبع...