أثار التراجع الأخير فى سعر الدولار أو بمعنى أوضح التحسن النسبى فى قيمة العملة المحلية أمام بقية العملات العديد من التساؤلات الهامة التى تحتاج إلى إجابات وافية.
وأولى هذه التساؤلات، هل هذا التراجع طبيعى أم مفتعل؟، حيث يرى البعض أن المركزى قد عاد للتدخل مجددا عن طريق ضخ كمية من الدولار التى حصل عليها مؤخرا سواء عن طريق الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد أو من قيمة السندات الأخيرة فى عمليات الإنتربنك مما تسبب فى زيادة المعروض ومن ثم تراجع الأسعار.
وثانيها، هل يمكن اعتبار مستوى العشرين جنيها الذى تحقق مؤخرا أمام الدولار خاصة بعد أن عادت الفجوة بين السوق الرسمى والموازى مجددا، قمة للأسعار ومن ثم بدأت بالفعل فى التراجع نحو القيمة العادلة أو السعر التوازنى المتوقع أن يدور حول مستويات 14 جنيها.
وثالثها، هل بتراجع سعر الدولار، إذا ما استمر بالفعل تجاه مستوياته العادلة، ستتراجع الأسعار بعد موجة الارتفاعات القياسية على مدار الشهور الأخيرة والتى دفعت بمعدل التضخم إلى مستوى غير مسبوق حول 29%.
وللإجابة على هذه التساؤلات، يقول إيهاب سعيد خبير سوق المال إنه يجب أولا أن نضع فى اعتبارنا أن ما قام به المركزى المصرى مطلع نوفمبر الماضى، يعد خطوة تاريخية بالفعل، حيث إنه لم يقم بخفض قيمة الجنيه أو اتباع أسلوب التعويم المدار، وإنما اختار التحرير الكامل، لتكون مصر هى الدولة الأولى بالمنطقة التى تلجأ لهذا الأسلوب، ومن ثم يضحى الحكم على هذه التجربة فى غضون أشهر قليلة مجحفا نوعا ما، فلا يمكن بأى حال من الأحوال تقييمها بشكل موضوعى قبل عام على أقل تقدير.
وإن كان هذا لا يمنع من ظهور بعض المؤشرات التى يمكن أن نستدل منها على إجابات لتلك التساؤلات، ومن ثم بناء رؤية موضوعية عن ما قد يحدث خلال الفترة القادمة.
فإذا ما تطرقنا للسؤال الأول من احتمالية تدخل المركزى مجددا فى السوق الصرف، بما يعنى أن التراجع الحالى هو فى حقيقته "مصطنع" كونه ليس ناتجا من طلب وعرض حقيقى، خاصة فى ظل العطلة السنوية للصين والتى تعتبر صاحبة أعلى فاتورة استيرادية تتجاوز الـ 15 مليار دولار سنويا ما بين رسمى وغير رسمى، الأمر الذى تسبب فى تراجع الطلب على الاستيراد وهو ما استغله المركزى للتدخل فى السوق.
فى البداية يجب ملاحظة أن تدخل المركزى فى سوق الصرف هو أمر طبيعى ويحدث فى كل دول العالم، فلا مانع إطلاقا أن يتدخل المركزى عبر عمليات الانتربنك كبائع أو كمشترى لضبط السوق، ولنا فى الدكتور فاروق العقدة مثلا حين كان يتدخل أحيانا فى سوق الصرف قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير لضبط السوق، وأن كان التدخل وقتها عكس ما يحدث الآن، حيث كان يضطر أحيانا للضغط على الجنيه حتى يحافظ على سعره عند مستويات منخفضة بما يضمن الحفاظ على تنافسية السلع والخدمات .
ولذلك فلا مانع على الإطلاق من تدخل المركزى بسوق العملة، ولكن، التدخل عادة يكون بحساب، وليس بغرض الدفاع عن قيمة "وهمية" للعملة المحلية، كما حدث فى الفترة ما بين 2011 حتى نوفمبر الماضى، حين تسبب الدفاع عن قيمة "وهمية" للجنيه فى ضياع الاحتياطى النقدى وكذا المنح والقروض الخليجية!
وتدخل المركزى قد يكون مقبولا فى أوقات محددة، ولكن هذه الفترة تحديدا تعد مرحلة حرجة، يجب أن يترك فيها السوق حرا حتى يحدث التوازن الكامل بالسوق بعد تحرير سعر الصرف، ولذا لا أتوقع ولا أتصور أن يقدم المركزى على التداخل مجددا فى السوق كونه بهذا يفسد خطوة تحرير السعر الذى اعتبرها المحافظ الحالى بمثابة عبور جديد!
الأمر الآخر، والذى يبدو غائبا عن البعض، هو التراجع الكبير فى الطلب، فمما لا شك فيه أن الارتفاع القياسى فى الأسعار تسبب فى تراجع حاد فى الطلب خاصة فى ظل ثبات مستويات الدخل، وهذا وحده كافيا لتراجع فاتورة الواردات، حيث إن العديد من المستوردين قد خرجوا فعليا من السوق بعد تجاوز الدولار مستويات 14 - 15 جنيها، وذلك خشية عدم القدرة على تصريف بضائعهم بعد ارتفاع أسعارها.
وأضف إلى ذلك، عودة تحويلات العاملين بالخارج إلى قنواتها الشرعية عبر الجهاز المصرفى بدلا من تجار العملة، وهو ما أحدث وفرة حقيقية للدولار بالبنوك، بالإضافة إلى حجم التحويلات الضخم من حائزى الدولار كأداة للتحوط خلال الفترة الماضية بعد أن أضحى العائد على الجنيه أكثر إغراء، وأتصور أن استقرار السوق لبضعة أسابيع قادمة مع وفرة المعروض من العملات الأجنبية وعودة نشاط قطاع السياحة أن تبدأ البنوك فى بيع العملات لتعود إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
وإذا ما تطرقنا للسؤال الثانى من إمكانية الجزم بأن الدولار قد حقق قمته بالفعل، أو بالأحرى هل وصل الجنيه إلى القاع؟ ومن ثم بدأ فى استعادة جانب من خسائره أمام بقية العملات استعدادا للاستقرار حول قيمه العادلة، أعتقد نعم، فالمستويات التى حققها الدولار مؤخرا قرب 20 جنيها هى مستويات قياسية، لا تعبر فعليا عن الواقع الحالى، ولا حتى عن الرؤية المستقبلية على الأجل القصير إلى المتوسط، وحتى إذا ما عاد الدولار للارتفاع أمام الجنيه، فلا أتصور أن يتجاوز تلك المستويات، سيما إذا ما استقرت الأوضاع ولم يحدث ما يؤثر على المناخ السياسى والأمنى، مع ملاحظة منطقية استمرار التذبذب فى الأسعار صعودا وهبوطا لفترة، حتى يصل السوق للسعر التوازنى الذى تتعادل فيه قوة الطلب والعرض الفعلية.
فالبعض يرجع الهبوط الحالى كما سبق وأشرنا إلى عطلة العام الجديد بالصين وتراجع فاتورة الاستيراد، وما أن تنتهى العطلة إلا وسيعود الطلب على الدولار وبقوة، والحقيقة أن العطلة قد انتهت بالفعل، وأن أكثر من 90% من الموردين قد عادوا لنشاطهم، ومن ثم لا يمكن الاستناد إلى هذه الحجة فى تراجع الدولار مؤخرا، ولكن ما يمكن تقبله، أن الطلب على الاستيراد نفسه قد تراجع بعد تحرير سعر الصرف كما سبق وأشرنا فى التساؤل السابق، فالأزمة لم تعد فى توفير النقد الأجنبى اللازم، ولكن أضحت أيضا فى ارتفاع قيمة الدولار الجمركى الذى أصبح يحدد شهريا بناء على المتوسط السعرى للشهر السابق، بالإضافة إلى رفع الجمارك خلال العام الماضى مرتين متتاليتين، وبعيدا عن الأثر التضخمى لهذا الرفع، إلا أنه قد شكل ضغطا واضحا مع القرارات التضيقية وارتفاع الدولار الجمركى فى الطلب على الاستيراد.
والمعارضون لهذا التحليل، مازالوا يستندون فى رؤيتهم إلى استمرار التباطؤ فى قطاع السياحة وتراجع تحويلات العاملين بالخارج بعد الأزمات الحادة التى ضربت دول الخليج وكذلك الركود العالمى وأثره على دخل قناة السويس، فى ظل طلب متنامى من قبل الدولة على الدولار لاستيراد السلع الأساسية والمنتجات البترولية وسداد أقساط القروض.
ولكن يجب الوضع فى الاعتبار أيضا النجاح الكبير لطرح السندات الحكومية بالأسواق العالمية وحجم التغطية الضخم الذى تجاوز ثلاثة أضعاف الكمية المطلوبة بقيمة 4 مليارات دولار، بالإضافة إلى تغطية المستثمرين الأجانب لقرابة 100% من آخر طرح للأذون الحكومية الأسبوع الحالى، وهو إن دل على شىء فإنما يدل على تنامى الثقة فى الاقتصاد المصرى وكذا برنامج الإصلاح الاقتصادى بما يخلق توقعات إيجابية على الأجل المتوسط والطويلة غالبا ما تنعكس على أداء العملة المحلية التى شأنها شأن أسواق المال تتفاعل مع التوقعات المستقبلية وليس الأحداث الفعلية.
يبقى السؤال الأخير والمتعلق بإمكانية تراجع الأسعار حال تراجع سعر الدولار!! وهذا السؤال تحديدا فضلنا أن ننهى به الحديث كونه يعد الشغل الشاغل لرجل الشارع خلال الفترة الحالية، فما يعنيه بالأساس حركة الأسعار، بعيدا عن أهمية ارتفاع أو انخفاض سعر الدولار، خاصة وهو يسمع من التجار يوميا المقولة الشهيرة "الدولار يا بيه".
وقبل الإجابة على هذا السؤال دعونا أولا نتساءل، هل ارتفاع الأسعار قد نتج عن تحرير سعر الصرف فقط؟ بالتأكيد لا، فقرار تحرير سعر الصرف من وجهة نظرى الشخصية مظلوم إعلاميا ومجتمعيا، فأثره التضخمى لم يتخط ارتفاع الدولار الجمركى، خاصة وأن التعامل الفعلى قبل تحرير سعر الصرف كان على أسعار السوق الموازى وليس الرسمى، فالمركزى لم يكن يوفر للسوق أكثر من 10% من احتياجاته سنويا من الدولار، ومن ثم فلم يكن هناك أثر حقيقى لتحرير سعر الصرف على السوق باستثناء ارتفاع الدولار الجمركى من 8,80 جنيه إلى 18 جنيها.
أما الأثر التضخمى فقد نتج من القرارات المصاحبة لتحرير سعر الصرف، مثل ضريبة القيمة المضافة وخفض الدعم على الوقود، وأخيرا رفع الجمارك مرتين خلال العام الماضى، وتلك القرارات لازالت قائمة، وحتى إن تراجع سعر الصرف، فسيبقى أثر هذه القرارات كما هو، ولذا فالتأثر لن يكون كبيرا على حركة الأسعار، فأحد أكبر الأخطاء التى وقعت فيها الحكومة فى نظرنا هو رفع الجمارك بشكل كبير خلال الفترة الماضية للحد من الاستيراد، فهذه القرارات تسببت فى ارتفاع أسعار المنتج المحلى بسبب اختفاء المنتج المستورد، فأصبح السوق يعج بالمنتجات الأقل جودة مع ارتفاع فى السعر، الأمر الذى نتج عنه ارتفاع فى معدلات التضخم مع تراجع جودة المنتج، فالمفترض أن تحرير سعر الصرف وحده قادر على الحد من فاتورة الاستيراد، فلذا لم يكن هناك أى داعى للضغط أكبر على الأسعار بهذا الشكل من جانب الدولة برفع الجمارك، فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن يتحمل المواطن كل هذه الإجراءات مجتمعة فى فترة زمنية قصيرة، ولذا نأمل مع عودة نشاط قطاع السياحة والاستثمارات المباشرة وتحويلات العاملين بالخارج بما يؤدى لاستقرار سعر الصرف، أن تخفف الحكومة من سياساتها التضييقية على الاستيراد، فلم يكن مقبولا دعم الاستيراد عن طريق الحفاظ على قيمة وهمية للجنيه فيغرق السوق بالسلع المستوردة "المدعومة"، ولن يكون مقبولا أيضا الضغط على الاستيراد لدرجة اختفاء العديد من السلع بما يقضى على مفهوم السوق الحر ويتسبب فى ضرر بالغ على التنافسية ويتيح الفرصة الكاملة للمنتج المحلى للاحتكار والمبالغة فى التسعير.
ما يمكن استخلاصه فى النهاية، أن تراجع الدولار أمام الجنيه، أو بالأحرى تحسن وضع الجنيه أمام العملات الأخرى بعد انهياره على مدار العام الماضى، قد يبدو حتميا، سيما إذا ما استمرت الدولة على المضى فى برنامجها للإصلاح الاقتصادى دون تراجع أو تأجيل، وأن استقرار الأسعار قد يحدث أيضا ولكنه قد يستغرق فترة خاصة وأن خطوات الإصلاح الهيكلى قد تمتد لسنوات، وإن كان الأثر قد يبدأ فى غضون عام إلى عامين على أقصى تقدير، ويبقى الهدف من تلك الإصلاحات، دفع عجلة التنمية واستعادة معدلات النمو بما يعود بالنفع على ارتفاع دخل الفرد وتوفير فرص العمل، والتى من شأنها إحداث التوازن بين مستويات الدخل وارتفاع الأسعار.