الشارع يأوى الآلاف ممن هم فى حاجة إلى مأوى.. ويزخر بالقصص والحكايات، كما هو الحال مع الراقص مع الكلاب، الذى كشف مجتمعنا على حقيقته، ولكنها تقبع فى الصندوق الأسود الذى لا يتعامل معه إلا القليل ، خوفا من الاطلاع على ما وصل إليه مجتمعنا من تفكك أسرى ونزعات أنانية وفقر وجهل ومرض ، فالجميع مخطئ فى حق من هم بلا مأوى، يتركونهم ليتعلموا من حياة الشارع ويظهرون تعاطفا لا يسمن ولا يغنى من جوع، إلى أن تأتى الصدمة بقصة كاشفة جامعة مانعة، قصة تضعنا جميعا أمام الحقيقة بلا مواربة.
اشتعل العالم الافتراضى مؤخرا باكتشاف الراقص مع الكلاب، رغم أنه حرف واحد فى أول سطور حكاية مجتمع بلا مأوى.. مجتمع أطاح التفكك ببراءة أطفاله إلى أرصفة خرسانية وحيوانات ضالة تحنو عليهم أكثر من أحضان أمهاتهم و نخوة آبائهم.. مجتمع جعل الشارع هو الملاذ و الكلاب هم الرفاق .
لقد دقت حالة الطفل الراقص مع الكلاب ناقوس الخطر بأن هناك مئات الآلاف من الحالات التى تملأ الشوارع وأسفل الكبارى وداخل الأنفاق والحارات ليلا، ولكنه كان سعيد الحظ ان قابلته كاميرا أهم موقع خبرى فى مصر ورصدت حكايته ووضعتها امام الرأى العام لعله يستفيق.
حالة تعاطف معها الجميع على وسائل تواصل اجتماعى، لدرجة جعلت هذا الطفل الشهير بالراقص مع الكلاب يفرض نفسه على مشاعرنا ويكسب تعاطفنا، إلى أن جاء رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة بأمر ليس بالجديد عليه، وأعلن تبنيه وتكفله بمأوى وتعليم هذا الطفل البرىء، ولكن ماذا بعد ؟
ماذا عن بقية أطفال الشوارع، ماذا عن بقية الراقصين مع الكلاب والقطط والفئران ، هل سنتركهم يستكملون مسيرتهم الضالة فى ظلام المدينة ، هل سنتركهم لأحضان الأرصفة الخرسانية التى تلهب ظهورهم من حرارة الصيف وتقض مضاجعهم من برد الشتاء ، ومتى سنلتفت لهم ونحاول انتشالهم من هذا الواقع المر المفروض عليهم؟.
أطفال الشوارع قضية شائكة وقديمة، لطالما تحدث عنها الجميع و تناولتها الصحف والقنوات التليفزيونية، وكتبت عنها غالبيةالأقلام.. ولكن الاستجابة دائما مؤقتة ، مادامت الدولة لا تضعهم ضمن أولوياتها، وفى غياب استراتيجية للتعامل معهم؟
ألم يحن الوقت لوضع خطة لإنقاذ هولاء الأطفال من الضياع وحمايتهم من الواقع المؤلم ورسم حياة جديدة تعيد لهم آدميتهم، قبل أن يدفع المجتمع ضريبة إغفاله هذه القضية، فهم سبب رئيسى لارتفاع معدل الجريمة وانتشار ظاهرة التسول وموطن خصب للأوبئة والأمراض و كافة التصرفات الشاذة.
هذا التدخل الذى ننشده جميعا لن يتحقق إلا بأن تمتلك الدولة الإرادة الحقيقية وأن يتم تصنيفها كقضية أمن قومى، وأن تتعامل بشكل جاد مع هذا الملف بقيادة تحالف يضم رجال الأعمال، فمصر تزخر بأمثال أحمد أبو هشيمة، وتفعيل دور المجتمع المدنى وجذب عدد كبير من المتطوعين، على أن يتم وضع خطة استراتيجية للقضاء على تلك الظاهرة ورسم تصور لمستقبل مئات الآلاف من الأطفال، الذين لا ذنب لهم سوى أن الحياة فرضت عليهم واقعا مريرا .
ومن واقع مسئوليتنا المجتمعية، يجب الاصرار على وضع مشروع قومى لإنقاذ هولاء الأطفال وتحويلهم إلى طاقة منتجة بناءة، تضيف للوطن ولا تخصم منه.
ماذا لو تبنت الدولة بناء مجتمع متكامل، سكنى وتعليمى وصحى ورياضى وفنى وثقافي، لاحتواء هؤلاء الأطفال و نجعلهم يبنون مدينتهم الجديدة بسواعدهم .. مدينة يرسمون فيها أحلامهم .. مدينة تحتضن براءتهم و تجعلهم يرقصون للحياة وليس مع الكلاب .
ادعوا الجميع ،حكومة ورجال أعمال ومؤسسات المجتمع المدنى، إلى التحرك نحو بناء هذا المجتمع الموازى لينهى مجتمع الأرصفة، مجتمع يشعر سكانه من أطفال الشوارع بحقهم فى الحياة وبالمواطنة .
أرجو أن يشاركنا الجميع فى تنفيذ هذا الحلم و يجعلنا نبنى نموذجا فريدا يحتذى به .