قال الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة، أن أى تخطيط استراتيجى للمستقبل، يجب أن يضع التعليم على قائمة الأولويات، وأن يأخذ فى الاعتبار البعد الاجتماعي، والتنموي، والديموجرافي، على مستوى الوطن العربى كله وعلى مستوى كل دولة، مضيفا "فى الوقت نفسه يراعى المتغيرات الدولية، فمجتمعنا ليس بمعزل عن العالم الذى صار قرية كونية صغيرة".
وأضاف نصار، خلال كلمته بمؤتمر"أنظمة التعليم العالى: رؤية مستقبلية" الملتقى الثانى لرؤساء الجامعات على هامش القمة العالمية للحكومات 2016 دبي، أنه لابد أن تكون النّظرة المستقبليّة هى الحاكمة لمسيرة التعليم، قائلا "لا سيما أن من نعلمهم، يتخرجون فى المستقبل وليس الآن، وهذا الإنسان المستقبلى يحتاج إلى نوعية جديدة من التعليم تقدم له أسلوب حياة وطريقة عمل، ونوعية جديدة تعتمد على التعلم بدل التعليم، والبحث بدل النقل، والحوار بدل الاستماع، والقدرة على الاختلاف بدل التسليم المطلق بالأفكار السائدة".
وتابع رئيس جامعة القاهرة، إن التحدى القومى أصبح الآن هو التنمية وتحقيق الأمن، قائلا "يزداد التحدى أمام أعيننا خاصة مع الوضع الخطر الذى يشير إلى ارتفاع نسبة الأمية فى بلادنا رغم مرور أكثر من خمس وسبعين عاما على كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" لطه حسين عام 1938"، مضيفا "تزداد المشكلة تأزما مع خروج معظم جامعاتنا العربية من التصنيفات الدولية".
وأوضح نصار، أن المرحلة الراهنة تطرح تحديات عديدة، وهى كيف يمكن تركيز الاهتمام فى التعليم على طرق التفكير وكشف الحقائق وتأسيس روح الابتكار؟ وكيف يمكن تعزيز قدرة الطلاب والباحثين على تحقيق الأهداف الحيوية للدولة الوطنية باعتبارها أحد أهم تعريفات الأمن القومي؟ وما هو السبيل لتقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء فى طبيعة وفرص التعليم؟ وكيف نوفر المناخ الأمثل لجودة العملية التعليمية؟ وكيف يمكننا أن نصل بخريجينا إلى المستوى العالمى الذى يؤهلهم إلى الدخول إلى سوق العمل من أوسع أبوابه؟".
وأشار رئيس جامعة القاهرة، إلى إن الإجابة على هذه التحديات لن يكون بمجرد التمني، وإنما برؤية واضحة لمستقبل التعليم والبحث العلمي، وبفكر جديد يعكس فلسفة جديدة للتعليم،على أساس النمو فى تصميم المشاريع البحثية، والبحث فى قضايا الدولة، وتشخيص الاحتياجات. فقد أصبحت سمة العلم الجديدة هي"التطبيق" أو بلغة الاقتصاد "العائد السريع"، مضيفا "كل هذا لا قيمة له فى حال عدم وجود شخصية مسئولة، واعية، حرة، ناقدة، فصنع الشخصية القادرة على العمل السياسى والفكرى والإدارى هو مهمة العملية التعليمية، لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيرا فى معادلة الشخصية".
وأكد نصار، قائلا "لعل هذا المعنى قريب من التصور الذى كان يقصد إليه طه حسين فى كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" عندما قال "معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بيئات للثقافة بأوسع معانيها"، مضيفا "يحزننى أن أقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن استراتيجية قومية واضحة ومحددة، بل لا توجد لدينا فلسفة اجتماعية يتحدد بناء عليها منهجنا فى التعليم والبحث العلمي، ولذا لا مفر من وضع خطة استراتيجية تعليمية وبحثية موحدة وواسعة النطاق لمدة خمس سنوات".
وأوضح رئيس جامعة القاهرة، قائلا "فى هذه الورقة سوف أتحدث عن ملامح التطوير الاستراتيجى المرجو فى التعليم ، وفق تجربتنا فى جامعة القاهرة، على أساس المستويات الثلاثة التى حددها لورقتى القائمون على الملتقى الثانى لرؤساء الجامعات على هامش القمة العالمية للحكومات".
وتابع نصار، أن المستوى الأول هو "الأنماط والأساليب التعليمية"، قائلا "إن حالة السيولة السياسية والاجتماعية، وجو الحوار المتأزم الذى تشهده بعض دول العالم العربى الآن بين كل الأطياف يدعونا لإعادة التفكير فى الضلع الأول من العملية التعليمية، أعنى الأساليب التعليمية أو طرق التدريس التقليدية باعتبارها مسئولة عن العجز المجتمعى عن الدخول فى حوار منتج وفعال. ولذا أجد وجوب التوجه نحو انتهاج طرق تدريس جديدة قائمة على التربية الحوارية "Dialogical Pedagogy"، والتى تهدف إلى تخريج شخصية حرة واعية قادرة على الحوار، وغير متعالية عليه، مما ينشأ عنه النمو فى تكوين المواقف والآراء الجديدة.
وهذا هو مقصد باولو فريرى "Paulo Freire " من كتابه الشهير "التعليم من أجل الوعى النقدى Education for critical consciousness "، حيث "التعليم الحواري" فى مقابل "التعليم البنكي" الذى يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات فى ذهن الطالب، ومن شأن ذلك التعليم البنكى تكريس "الوضع القائم".
واستكمل نصار، قائلا "فى حين ينبغى أن يكون "التعليم ممارسة للحرية Education : The Practice of Freedom"، وهذا عنوان كتاب آخر لباولو فريرى يؤكد فيه على أن الحوار له أساس كيانى يخلق إمكانية فى الإنسان ليتناقش ويعيد تشكيل العناصر الحقيقية لهويته، وهكذا يساهم فى تغيير العالم.
وفى هذا السياق تظهر أهمية تطوير لوائح ونظم التدريس حتى لا يتم الضغط على الطالب بالمادة العلمية إلى الدرجة التى لا يستطيع معها أن يفكر فيها على مسافة منها. وهنا تبرز أهمية الأنماط والأساليب التعليمية المختلفة، وهى جميعا طرق متكاملة يجب الاستفادة منها جميعا، مثل "طريقة المشروع project methodالتى قال بها ديوي، والتعلم بالاكتشاف، والتعلم التعاونى الجماعى بمراحله المختلفة، والتعلم الذاتي، والتعلم بالنمذجة، وتعلم سلوك حل المشكلات بخطواته المعروفة".
وتابع نصار، أن المستوى الثانى هو "الإدارة الأكاديمية"، قائلا "إن دور الإدارة هو إدارة المؤسسة التعليمية، ولا شك أن نظم الإدارة تطورت تطورا كبيرا فى العصر الحديث، ومع ذلك لا تزال الكثير من مؤسساتنا فى العالم العربى تدار بالأساليب القديمة خارج التاريخ وخارج عصر التكنولوجيا، ولذا لابد من تطبيق أحدث النظم العالمية لضمان جودة التعليم والاعتماد وتقييم الأداء وتطبيق المعايير الأكاديمية بكل مستوياتها فى الإدارة والبرامج التعليمية، والمضى بخطى واسعة فى جهود تكوين إدارة أكاديمية إلكترونية، تعتمد بشكل جوهرى على نظم المعلومات فى الإدارة والتعليم والبحث العلمي.
وأوضح رئيس جامعة القاهرة، أن ذلك من خلال ميكنة كل العمليات الإدارية، ولا تكتمل عملية الميكنة دون إعداد بطاقة الطالب الرقمية التى تشتمل على كافة بياناته الدراسية، من بداية اندماجه بالتعليم وحتى المرحلة التى وصل إليها، مضيفا "لا قيمة لذلك كله بدون التدريب الفنى الموازى للأخصائيين والفنيين، لأن البنية الهيكلية من الأجهزة والمعدات ووسائل الإدارة لا يمكن لها أن تؤدى إلى تطوير فعال بدون القوة البشرية المؤمنة بحسن استخدام التقنية وتوظيفها بشكل فعال وبما يرفع من الأداء الإدارى الأكاديمي، وعلى نفس درجة أهمية امتلاك الأجهزة والمعدات لابد من تدريب الذات على "حسن الاستخدام والتوظيف".
وأشار نصار، قائلا "فى الوقت الذى تتوق فيه كثير من المؤسسات إلى مضاعفة عدد الحاسبات التى بحوزتها، لابد أن ندرك جميعا أن جودة البيانات التى تحويها هذه الأجهزة لا تقل أهمية عن البرامج المحوسبة والمعدات، ولا تكتمل منظومة نجاح الإدارة الأكاديمية بدون توحيد منظومة التشريعات الحاكمة للتعليم، من خلال قانون عام موحد للتعليم، ولائحة تنفيذية موحدة ودقيقة وواضحة، تمثل مظلة عامة حاكمة، على أن تسمح فى الوقت نفسه بلوائح خاصة لمؤسسات التعليم والجامعات تظهر الشخصية المستقلة لكل منها فى إطار أهدافها الاستراتيجية، كمؤسسات علمية اقتصادية لها كامل الحرية الأكاديمية والإدارية والمالية فى إطار من الشفافية والمحاسبة المجتمعية".
وتابع نصار، قائلا " ذلك يتم من خلال تصورات فاعلة تحدد أدوار ومسئوليات الجهات الحاكمة فى إدارة التعليم العالى وخلق الكيانات القادرة على إدارة حديثة للمنظومة تحقق أهداف الخطة الاستراتيجية بالكفاءة المطلوبة، على أن يكون للكليات والكيانات التعليمية لوائح داخلية تتيح لها الإدارة الذاتية واللامركزية، للتخلص من البيروقراطية المزمنة التى تمثل أحد أهم مشكلات التعليم فى بلادنا، وبما يضمن لمنظومة التعليم المرونة والكفاءة والفاعلية والقدرة على المنافسة".
وأردف نصار، أن المستوى الثالث هو "المناهج التدريسية"، قائلا "لا شك أن التعليم يحتاج إلى جهود مضاعفة لتجديد مناهج التدريس لتتناسب مع متطلبات المجتمع وسوق العمل. ولعلنا ندرك أنه قد آن الأوان لإعادة صياغة الكتاب الجامعى أو المدرسى لتحقيق ما يعرف بالكتاب المرجعى المعلم، وهو الكتاب الذى يستطيع أن يخوض فيه الطالب بمفرده وبمساعدة محدودة من المدرس، ودون الحاجة للمذكرات والملخصات، مضيفا "من ناحية أخرى لابدّ من اتخاذ قرارات جريئة نجمد من خلالها تدريس المناهج التدريسية التى لا علاقة لها بالواقع أو المستقبل، ونستبعد التخصصات التى تحلق خارج التاريخ فى موضوعات مستهلكة، ونفتح فى المقابل تخصصات تتطلبها عملية التنمية، ودون إغفال تعليم الفنون، فروح السوق والتنمية ينبغى أن لا تنسينا "البعد الثالث" فى الإنسان وهو القلب باعتباره الميدان الخصب للخيال والوجدان اللذين بدونهما لن يستطيع الإنسان أن يعيش من أجل المستقبل".
وأكد رئيس جامعة القاهرة، قائلا " أن ذلك يتواكب الارتقاء بالمحتوى التعليمى مع تنمية الإبداع فى حل المشكلات، والخروج من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمى لبحث القضايا الواقعية، وهذه هى أهم أداة فى الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي، كما يقول جون ديوى فى كتابه "الديمقراطية والتربية Democracy and Education"، والذى ينظر فيه إلى التربية باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة "EDUCATION AS A NECESSITY OF LIFE".
وقال نصار، "لا ينفصل عن هذا منح مساحة أكبر لمراجعة متواصلة ودورية للمحتوى التعليمى وحجم الجرعات العلمية التى يتلقاها الطلاب، مع ضرورة إعادة تطوير أساليب التقويم وأسئلة الامتحانات لتختبر المهارات وطرق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس النتائج " Outcome-based"، بدلا من التركيز فقط على عملية التعليم " Process-based".
وأوضح نصار، قائلا "مع الاعتماد على الأسئلة ذات الاختيارات المتعددة، لتقليل العامل الإنسانى وتحقيق الحيادية فى التقويم والتصحيح، وهنا تبرز أهمية أساليب التقويم التى تعتمد على الأساليب الإلكترونية فى إجراء الامتحانات وتصحيحها بما يخفف العبء التدريسى ويحقق سرعة وعدالة بدرجة أكبر، مضيفا "فالتقويم الموضوعى هو محور الارتكاز فى الانطلاق نحو مستقبل أفضل، وبدونه لا يمكن أن يكون هناك أى معنى للتطوير، وتطوير محتوى التعليم لن يحقق غرضه، دون رفع كفاءة المعلمين وأعضاء هيئة التدريس من خلال التدريب المنظم والمستمر، وتطوير مهاراتهم فى أساليب التعلم وطرق التعليم وبناء المناهج".
واختتم رئيس جامعة القاهرة، كلمته قائلا "إن تطوير أنماط وأساليب التعليم والتعلم، ورفع كفاءة الإدارة الأكاديمية، وتحديث المناهج التدريسية، لابدّ أن يواكبه جهد كبير من أجل بعث إرادة التقدم فى عقول الأساتذة والطلاب، وهى مهمة قومية شاملة ترتبط بالتأكيد على الأهداف الوطنية للعملية التعليمية، وليس التعليم هو نهاية الطريق، بل هو مجرد خطوة أساسية، تليها مراحل ومراحل من الجهاد والنضال العلمى والإنسانى، وحسبنا فى هذا المقام أن نرصد ونلح على هذا الدور ونؤكده، وحسبنا أن نقوم به بكل عزم وإصرار".