ولد مُحمَّدٌ، رسول الإنسانية، صلى الله عليه وسلم، فى مثل هذا اليوم الموافق 12 ربيع الأول، ورغم أن النبى ليس شخصية تاريخية عادية يتم التعامل معها بمنأى عن المشاعر الدينية، بالإضافة إلى أنه شخصية مقدسة، سوف نحاول من خلال السطور التالية التعامل مع عبقريته وفقا للمحددات البشرية المجردة، وخاصة معيار الفهم والتحليل الدقيق للأحداث والأشخاص فى حيز السياسات الدولية، وليس فى حيز سياسات قريش وبيئته الداخلية.
أثبت محمدٌ، الرسول صلى الله عليه وسلم، عبقرية فريدة فى فهم أبعاد السياسات الدولية فى عصره، كما أظهر من خلال قراراته وأحاديثه لأصحابه عن الأمم الأخرى غير العربية، قدرة لا يمكن تخطيها فى تحليل التفاعلات الدولية حتى خارج شبه الجزيرة العربية.
وبالرغم من أن علم السياسة لم يوضع فى عهد محمد النبى ولا حتى فى العهود التى لحقت به؛ إلا أن التدبر والتأمل فى قراراته ذات الصفة الاستراتيجية فى محيطه الخارجى تشى بأننا أمام عالم سياسة من الطراز الرفيع، ويمكن فهم تلك الخاصية فى النبى محمدٍ من خلال قرارين بالغى الأهمية والخطورة.
القرار الأول.. الهجرة إلى الحبشة
فى العام الخامس بعد البعثة وحين اشتد الضغط على دعوة الرسول ومشروعه التنويرى فى بيئته الداخلية، رأى أنه من الأنسب أن يبعث بعضا من المؤمنين به إلى الخارج، محققا من وراء ذلك 3 أهداف استراتيجية:
أولا: البحث عن ملاذ آمن لأصحابه بعيدا عن سياسة القمع والبطش التى اعتمدتها قريش بحقهم.
ثانيا: كسب أرض جديدة من خلال إقامة علاقات تتصف بالديمومة والاستمرارية مع تلك الدولة.
ثالثا: دعوة حاكمها إلى الإسلام.
ويمكن قراءة عبقرية محمد الرسول ومدى علمه بالسياسة الدولية، من خلال مقولته عن النجاشى، ملك الحبشة، بأنه "مَلِكٌ لا يُظلَم عنده أحد"، ومعنى ذلك أن محمدا الرسول طبق علوم العلاقات الدولية المعاصرة فى تفاعلاته الخارجية فى هذا الجانب تحديدا بأن درس معالم شخصية القائد الذى يريد إقامة علاقات معه هذا من ناحية، ومن خلال منطوق الرسالة التى أرسلها مع الصحابة المهاجرين إلى الحبشة، من ناحية أخرى.
القرار الثانى.. الرسائل الدبلوماسية الدولية
بالرغم من أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أرسل عددا من الرسائل شبه المتطابقة إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين، وهوذه الحنفى أمير اليمامة، وملك عمان والحارث الحميرى حاكم اليمن، والحارث الغسانى أمير الغساسنة، وهى رسائل يمكن قراءتها فى اتجاهها الداخلى بشبه الجزيرة، إلا أن ما يعنينا فى هذا السياق هو رسائله فى البيئة الدولية الخارجية إلى ملوك وقادة العالم وهم، هرقل عظيم الروم، وكسرى ملك فارس، والنجاشى ملك الحبشة، والمقوقس عظيم مصر.
اختار الرسول فى العام السادس من الهجرة بعد أن استتب أمره داخليا وقوت دعوته، الخروج إلى العالم وإلى الإقليم، عن طريق إرسال رسائل إلى قادة العالم الكبار بما فى ذلك القوتين العظميين ـ بمعايير العصر النبوى ـ وهما زعيما الروم والفرس فضلا عن القوى الإقليمية الأخرى فى مصر والحبشة.
ويدلنا منطوق الرسائل وفكرتها على علم بالغ من محمد النبى بعلوم السياسة وبفنونها، وذلك من خلال 3 اعتبارات:
الأول: معرفته بأن الناس على دين ملوكهم، وأنك إن أردت كسب الشعوب إلى جوارك يجب أولا أن تكسب قادتهم، وهو منهج التعامل الدولى مع الرؤوس وليس الأجساد، لذلك لم يرسل دعاة ولا مصلحين ولا مبشرين إلى تلك الدول بل أقام الخط على استقامته رأسا من المدينة المنورة إلى العواصم الكبرى فى العالم والإقليم.
الثانى: اختيار المبعوثين الدبلوماسيين كل منهم إلى وجهته المقررة، وهو علم بالغ التعقيد فى العصر الحالى وقد تستغرق الحكومات أسابيع طويلة لتأهيل وتدريب ومن ثم اختيار السفراء وأعضاء الطواقم الدبلوماسية، ويبدو أن سياسته هذه حققت نجاحا لافتا، والدليل على ذلك الحوار الذى دار بين سفير الإسلام حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس عظيم مصر.
قرأ المقوقس رسالة الرسول محمد فقال لحاطب: "ما منع صاحبك إن كان نبياً أن يدعو على من أخرجوه من بلده فيسلط الله عليهم السوء". فرد حاطب: "وما منع عيسى أن يدعو على أولئك الذين تآمروا عليه ليقتلوه فيسلط الله عليهم ما يستحقون؟". فقال المقوقس: "أنت حكيم وجئت من عند حكيم".
الثالث: هو نصوص الرسائل وفحواها إذ تجمع بين الحكمة والاحترام الشديد لمقام القادة والتحدث الصريح عن المطالب، ويتضح من تلك النصوص أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهيها بعبارة: "إن أبيت فإن إثم قومك عليك"، وفى كل رسالة كان يختار النصوص القرآنية المناسبة للقائد الذى يحدثه فنراه يتحدث عن سياسة الإسلام تجاه أهل الكتاب فى رسالته مثلا إلى هرقل عظيم الروم، ويتحدث عن السيد المسيح عيسى ووالدته السيدة مريم عليهما السلام فى رسالته إلى النجاشى.
وهنا نتأكد ونفهم كيف كان محمدا الرسول خبيرا فى علوم السياسة مستعينا بالتاريخ فى تحليل السياسات الدولية، عالما محيطا بأصول العلاقات الدولية، ممهدا لدولته التى قامت، ومؤسسا لدعوته التى استمرت.