مما لا شك فيه أن قطاع الرعاية الصحية يأتى على رأس أولويات الحكومات، باعتباره أحد أهم ركائز الاقتصاد فى الكثير من دول العالم. وأصبح تقديم خدمات صحية تتسم بالجودة العالية وتراعى احتياجات وتطلعات الشعوب مطلباً فى غاية الأهمية، لاسيما فى الدول التى تمتلك كثافة سكانية عالية. إذ لا يمكن للرعاية الصحية أن ترتكز على القطاع الحكومى بمعزل عن القطاع الخاص باعتبار الأخير شريكاً أساسياً فى عملية التنمية الشاملة.
وفى مصر، حرصت الحكومات المتعاقبة على إشراك القطاع الخاص وإتاحة الفرصة أمامه للعب دور فعّال فى تقديم خدمات صحية نوعية للمرضى والمساهمة بإيجاد فرص عمل جديدة. ومنذ سبعينيات القرن الماضى، شهدت الدولة إقامة عدد من المستشفيات الخاصة، ومنها مستشفى الجنزورى التخصصى الخاص (عام 1971) والذى يدار حالياً من قبل أطباء من عائلة الجنزورى، ومستشفى القاهرة التخصصى الذى أسسه الطبيب حسن زاهد فى عام 1976 والمملوكة الآن من قبل مجموعة مستشفيات كليوباترا. وفى عام 1980، ازداد تأييد الحكومة بشكل كبير لإنشاء مستشفيات خاصة فى الدولة، وتم على إثر ذلك تشييد مستشفى السلام ومستشفى النيل بدراوى (المملوكة الآن لمجموعة مستشفيات كليوباترا)، فى عام 1982 وعام 1985على التوالى. وقد أسهم تأسيس هذه المستشفيات برفع إجمالى عدد الأسرة فى مصر بنسبة 60%، ليتجاوز عددها الـ 110 ألف سرير خلال الأعوام 1975 و1980، ومنها 11 ألف سرير تم توفيرها عبر المستشفيات الخاصة.
وفى عام 2008، سجّل قطاع الرعاية الصحية أول دخول لمستشفى دولية فى السوق المصرية. حيث قامت مجموعة المستشفى السعودى الألماني، التى تتخذ من المملكة العربية السعودية مقراً لها وتمتلك وتدير ستة مستشفيات أخرى فى دول مجلس التعاون الخليجي، بإنشاء مستشفى متعدد التخصصات فى مدينة القاهرة باستثمارات تصل لأكثر من مليار جنيه مصرى وبطاقة استيعابية تبلغ 300 سريرا. كما أدركت مجموعة "علاج السعودية" أهمية الاستثمار فى قطاع الخدمات الصحية فى مصر، وقامت بالاستحواذ على حصص فى عدد من المستشفيات والمعامل الطبية العاملة فى الدولة ومنها مستشفى ابن سينا.
ومع دخول مجموعات طبية كبيرة للعمل فى قطاع الخدمات الصحية فى مصر – ومنها على سبيل المثال "مجموعة ألاميدا" التى يديرها الطبيب فهد خاطر وتمتلك مستشفى السلام الدولى ودار الفؤاد، وتعتزم توسيع تواجدها فى السوق عبر تشييد مستشفيين آخرين -، ومجموعة "أندالوسيا" بقيادة الدكتور حازم زقزوق، أصبح القطاع محط أنظار العديد من المستثمرين المحليين والأجانب الذين أبدوا رغبتهم باغتنام الفرص الاستثمارية الواعدة التى يزخر بها هذا القطاع. ومن الواضح أن من الفوائد الرئيسية لإنشاء مجموعات المستشفيات هو الاستفادة من التآزر على نطاق وفورات فى التكاليف من المشتريات التى تسمح لهذه المجموعات التركيز على تحسين الجودة والاستثمار فى المعدات الطبية مع الحفاظ على نموذج الأعمال التجارية المستدامة مالياً، بما يحقق الفائدة لجميع أصحاب المصلحة بدءاً من المرضى والأطباء ووصولاً إلى الممرضين والموظفين وانتهاء بالنظام البيئى الطبى بأكمله.
تشتمل مجموعة مستشفيات كليوباترا على أربعة مستشفيات –كليوباترا، القاهرة التخصصي، والنيل بدراوي، والشروق – وبسعة إجمالية بالغة 643 سرير. وتمثل "كليوباترا" مجموعة المستشفيات الأكبر فى مصر، وتقدم خدماتها الطبية لأكثر من 500،000 مريض سنويا وتوظف أكثر من 4,000 مواطن مصري. تركز المجموعة على تطوير المستشفيات عبر إجراء العديد من التحسينات على خدمات المستشفيات والبنية التحتية والمعدات بنجاح، بما فى ذلك تجديد العديد من غرف العمليات، والعيادات، ووحدات المناظير، ووحدات العناية المركزة، وغرف الطوارئ، وتهدف المجموعة عبر ذلك إلى تحسين نوعية الرعاية الصحية المقدمة إلى المرضى والعمل مع أصحاب المصلحة فى المستشفى لتحسين البيئة العامة للعمل، إلى جانب تعزيز أواصر الشراكة الناجحة مع وزارة الصحة.
كما ركزت سياسات كليوباترا على إعادة استثمار الأرباح لمواصلة تحسين المرافق والمعدات الطبية واستثمرت المجموعة أكثر من 125 مليون جنيه لتحسين البنية التحتية الطبية، إلى جانب الاستثمار الأهم فى العنصر البشرى.
وعلى الرغم من ارتفاع نسب التضخم للرعاية الصحية فى مصر فى عام 2017، تمتاز مصر بانخفاض تكاليف الرعاية الصحية بالمقارنة مع الدول الأخرى فى شمال إفريقيا؛ حيث بلغ متوسط سعر إشغال السرير فى المستشفيات المتقدمة المتخصصة خلال عام 2017 فى القاهرة 60% من سعر إشغال سرير فى تونس، و40% من سعر إشغال سرير فى المغرب. وفى الوقت الذى يتراوح فيه تكلفة بناء مستشفى جديد فى مصر بين 250 مليون إلى مليار جنيه مصرى (باستثناء تكلفة قطعة الأرض المستخدمة) اعتمادا على عدد الأسرة والمعدات الطبية وارتفاع تكاليف تمويل مثل هذه المشاريع، سيكون لتوسيع الطاقة الاستيعابية الحالية للمستشفيات العاملة فى الدولة مطلباً أساسياً مما يتيح للصناديق الاستثمارية فرص واعدة لضخ أموالها فى مثل هذه المشاريع بغية تحقيق الأهداف المنشودة على المدى المتوسط.
يبلغ عدد الأسرة فى مستشفيات مصر 130 ألف سرير من بينها 30 ألف سرير فقط فى القطاع الخاص أى أن تواجد القطاع الخاص لا يتجاوز نسبة الـ 24% كحد أقصى من إجمالى المستشفيات فى مصر، هذا وفى حين يبلغ عدد الأسرة نصف سرير لكل ألف مواطن مصرى 1.5 مقارنة بـ 8.2 سرير لكل ألف مواطن فى ألمانياً و3.5 سرير لكل ألف مواطن فى لبنان و2.9 فى الولايات المتحدة و2.1 فى تونس. تُظهر هذه الأرقام مدى العجز الحاد فى عدد الأسرة التى تحتاجها مصر وبفارق ضخم ليس فقط عن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية فحسب ولكن أيضاً بالمقارنة مع بعض الدول العربية مثل لبنان وتونس والمغرب.
وبشكل منطقى وفى ضوء هذه الأرقام وفى ضوء الدراسة التى صدرت مؤخراً تحت عنوان "تقييم الوضع الصحى فى مصر ورؤية مستقبلية"، فإن من أهم متطلبات النهوض بالواقع الصحى فى مصر تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فى مجال تقديم الخدمات الصحية بأنواعها المختلفة وأيضاً القطاع الطبى الأهلي، إلى جانب إفساح المجال العام لتوسيع الاستثمارات فى هذا القطاع وذلك بما يضمن تحقيق وتنشيط التنافسية بين جميع القطاعات المقدمة للخدمات الصحية فى مصر بما يمكنها من بلوغ مستويات جديدة من التميّز.