تبنت دول شرق آسيا سياسات تجاوزت السياسات التنموية فقط، فبعكس اليابان وضعت حكومات هذه الدول سياسات سكانية وتولت تنفيذها بنجاح، وفي هذا الإطار أجرى المركز المصري للدراسات الاقتصادية دراسة حديثة عن السياسة السكانية في مصر.
وقالت الدراسة، إنه بتحليل تجربة كل دولة على حده، نجد أن هذا النجاح يمكن أن يعود إلى عدة عناصر رئيسية مشتركة وهي:
الإرادة السياسية المستدامة:
لم تختلف رؤية القيادة السياسية تجاه ملف السكان بمرور الوقت في أي من هذه الدول حتى تم إنجاز التحول الديمغرافي بنجاح والوصول بالخصوبة إلى معدل الإحلال، كما كان التغيير السياسي في هذه الدول هادئا وغير مصحوب بتغييرات في التوجهات الاقتصادية والسياسية، وهو ما عزز من قدرة الحكومات على وضع وتحقيق مستهدفات سكانية وتنموية بعيدة المدى
في كوريا الجنوبية على سبيل المثال، كان الرئيس "بارك شونغ هي" شديد الإيمان بأهمية تنظيم الأسرة، فأسس فور توليه الرئاسة بتأسيس مجلس التعمير الوطني الذي تولى وضع خطة اقتصادية تربط بين قضايا السكان والتنمية.
وكانت تايلاند من أوائل الدول بالعالم التي تخصص مادة بالدستور للسكان عام 1974، وتنص على تبني الدولة سياسة سكانية تتماشى مع حجم الموارد الطبيعية، السياق الاقتصادي والاجتماعي، والموقف التكنولوجي لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية وضمان أمن واستقرار الدولة.
سياسة سكانية تقوم على تحفيز الطلب وتعزيز العرض:
ركزت هذه الدول على كل من جانب العرض والطلب في الوقت نفسه، ففي حين اهتمت ببناء الوحدات الصحية ومراكز تقديم الخدمة وتقنين التعقيم والإجهاض واستخدام وسائل تنظيم الأسرة على أساس طوعي، اهتمت في الوقت نفسه بالعمل على جانب الطلب، أي الأفراد أنفسهم وتشجعيهم على تبني نمط الأسرة صغيرة الحجم من خلال حملات التوعية الموسعة والتعليم الصحي والإنجابي لجميع فئات المجتمع.
وضع منظومة قوية للحوافز الإيجابية والسلبية:
يعد استخدام الحوافز الإيجابية والسلبية للتأثير على قرارات الأفراد الإنجابية أحد أهم الخصائص البارزة للبرامج السكانية في دول شرق وجنوب شرق آسيا بشكل عام بما فيها الصين والهند، حيث قدمت كوريا الجنوبية في الثمانينيات إعانات مالية للطفل الأول وإعفاءه من الرسوم الدراسية وإعفاء الأم من تكاليف الخدمات العلاجية أثناء الحمل والولادة، ومنح الأسرة خصما ضريبيا على دخلها السنوي إذا وافق أحد الزوجين على التعقيم بعد الطفل الأول، وألغت سنغافورة إجازة الوضع بدءا من الطفل الثالث، وإلغاء تكاليف العلاج والولادة إذا قبلت الزوجة بالتعقيم، ومنح أولوية التسجيل بالمدارس وحجز الإسكان العام للأسر التي أجريت التعقيم بعد الطفل الثاني.
توفير التمويل اللازم:
نظرا لضعف الموارد المالية في المراحل الأولى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية بهذه الدول، اعتمدت حكوماتها بشكل أساسي على المساعدات والمنح الخارجية لتمويل برامج تنظيم الأسرة، مستهدفة تحقيق الاستدامة المالية على المدى البعيد.
إطار مؤسسي فعال ودمج الخطط السكانية في الخطط التنموية الخمسية للدولة:
كانت البرامج السكانية مكونا جوهريا في الخطط التنموية في كل من هذه الدول دون استثناء، بما يضمن وضع القضية السكانية على أجندة مجلس الوزراء باستمرار ومن ثم ضمان تخصيص الموارد المالية اللازمة للتنفيذ من ناحية والتزام كل وزارة بدورها المنوط بها من ناحية أخرى، وبناء عليه فقد اكتفت بعض هذه الدول بذلك ولم تنشئ كيانا مؤسسيا يختص بتنسيق الجهود السكانية، على أن يقوم مجلس الوزراء بهذا الدور التنسيقي على المستوى الكلي.
التعاون الوثيق مع القطاع الأهلي:
كان دعم القطاع الأهلي وتهيئة البيئة القانونية والمؤسسية اللازمة لتمكنيه من القيام بدور فعال في القضايا السكانية والتنموية قاسما مشتركا بين جميع التجارب الآسيوية، ولعل سنغافورة هي المثال الأبرز على ذلك، إذ لم تتولى الحكومة تنفيذ برنامج تنظيم الأسرة بشكل مباشر، ولكنها رأت أن المجتمع المدني أقدر على ذلك منها فتم تأسيس جمعية سنغافورة لتنظيم الأسرة عام 1949 كمقدم وحيد لخدمات تنظيم الأسرة والصحة والإنجابية.
التنمية الاقتصادية والسياسات العامة الفعالة:
أدى انخفاض معدل الخصوبة والوفيات في دول شرق آسيا موضع الدراسة إلى انخفاض معدل الإعالة من حوالي 90% في الستينيات إلى نحو 45% في المتوسط في التسعينيات، ومن ثم ارتفعت نسبة السكان في سن العمل من حوالي 50% إلى 70% خلال نفس الفترة.
النافذة أو الفرصة الديمغرافية:
عظمت حكومات هذه الدول استغلال الفرصة الديمغرافية، وتمكنت من إحداث طفرة اقتصادية حقيقية ولم يكن ذلك ليتحقق دون سياسات عامة فعالة ونظام سياسي مرن خلال ثلاثة عقود فقط"1960-1990".