اعتمد العالم على مصادر الغاز التقليدية على مدار عقود لتلبية احتياجاته من هذا المورد الحيوي، وهي لا تزال تساهم بالنصيب الأكبر في إنتاج الغاز الطبيعي في عالم اليوم، حيث تعد الأسهل والأقل تكلفة في الاستخراج مقارنة ببقية المصادر غير التقليدية كونها تنطوي على بعض الصعوبات الفنية والاقتصادية لاستخراجها، إلا أن التطور التقني مهد الطريق أمام استغلال المصادر غير التقليدية وبالأخص مصادر السجيل أو ما يعرف باسم مصادر (الغاز الصخري)، لتضيف مورداً جديداً للغاز يمكن استغلاله في تلبية احتياجات العالم من الطاقة لعقود مقبلة.
ولا شك أن الطفرة التي شهدها العالم في مجال استغلال المصادر غير التقليدية يعود في المقام الأول إلى التجربة الرائدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير تقنيات الحفر الأفقي الموجه والتشقيق الهيدروليكي. ومع صعود أسعار الغاز الطبيعي في السوق الأمريكي، بات استغلال المصادر غير التقليدية مجدياً من الناحية الاقتصادية. وباستغلال هذه التقنيات في تطوير مصادر السجيل على نطاق واسع، حققت الولايات المتحدة طفرة غير مسبوقة في إنتاج الغاز، حتى تمكنت من تصدر دول العالم كأكبر منتج للغاز الطبيعي منذ عام 2009، متفوقة على روسيا الاتحادية التي ظلت محتفظة بهذه المكانة لسنوات عديدة، وأصبحت تساهم بنحو 25% من الإنتاج العالمي للغاز الطبيعي، وتحولت إلى مصدر صاف للغاز (Net exporter) في عام 2017.
وفي إطار سعي الأمانة العامة لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) المتواصل نحو رصد وتحليل أبرز المتغيرات والتطورات في صناعة الغاز الطبيعي عالمياً، وما لذلك من تداعيات وانعكاسات على المستويين الإقليمي والدولي، فقد أصدرت مؤخراً دراسة بعنوان "طفرة إنتاج الغاز الطبيعي من مصادره غير التقليدية في الولايات المتحدة، وانعكاساتها على السوق العالمي للغاز الطبيعي المسال"، التي تتناول تطورات صناعة الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة في العقد الأخير، وتجربتها في تطوير المصادر غير التقليدية وبالأخص مصادر السجيل (الغاز الصخري)، وما أسفرت عنه من تداعيات على المستوي الداخلي، والمستوى الدولي.
فعلى الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة، أصبح الغاز الطبيعي الوقود الرئيسي المستخدم في قطاع توليد الكهرباء بحصة 35.1% في عام 2018 مقارنة بـ 21% في عام 2008، وذلك على حساب حصة الفحم التي تراجعت بشكل حاد لتصل إلى 27.4% عام 2018 مقارنة بـ 48.2% عام 2008، بل ومن المتوقع أن يستمر إيقاف محطات الكهرباء العاملة بالفحم مع تشغيل محطات توليد جديدة تعمل بالغاز الطبيعي ومعها محطات الطاقة المتجددة، ليهيمن الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة في قطاع الكهرباء في الولايات المتحدة خلال العقود المقبلة بحصة 50% بحلول عام 2050، وذلك خلافاً للعقود السابقة التي هيمن فيها الفحم والطاقة النووية.
أما على الصعيد الخارجي، فقد دشنت الولايات المتحدة مرحلة جديدة في تاريخها في مجال صناعة الغاز الطبيعي المسال، بعد تشغيل أول مشاريع الإسالة في ولاية لويزيانا عام 2016، والتي أعقبها تشغيل مشاريع أخرى في ولاية ميريلاند وتكساس، وتمكنت في فترة وجيزة من اختراق كافة الأسواق العالمية، بل وتصدّر مكانة متقدمة بين مجموعة الدول الكبرى المصدرة للغاز لتصبح رابع أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال عالمياً بعد دولة قطر، وأستراليا وماليزيا بحصة سوقية 6%. كما ظهر تأثير دخول الولايات المتحدة جلياً على نمو حجم مبيعات الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية وقصيرة الأجل، والتي ظلت شبه مستقرة عند 28% من إجمالي التجارة العالمية خلال السنوات الأخيرة حتى عام 2017، حيث ارتفعت حصة مبيعات السوق الفورية وقصيرة الأجل إلى 32% عام 2018، بعد أن وصل إجمالي المبيعات إلى حوالي 99.3 مليون طن بزيادة 21.7 مليون طن عن مبيعات عام 2017. وأصبحت الولايات المتحدة ثاني أكبر مورّد لمبيعات الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية وقصيرة الأجل بعد أستراليا مستحوذة على حصة سوقية قدرها 13.5% في السوق الفورية. وتأتي هذه التطورات لتعطي دليلا واضحاً على أن طفرة الغاز الصخري في الولايات المتحدة قد امتدت آثارها إلى كافة أسواق الطاقة العالمية، وعززت من مكانة الولايات المتحدة كلاعب مؤثر في السوق العالمي للغاز الطبيعي المسال.
وقد توصلت الدراسة إلى أن مشاريع الإسالة في الولايات المتحدة تتطلب تكاليف رأسمالية أقل حيث أن بعضها قائم على استغلال مرافئ كانت تستخدم في السابق في استقبال الغاز الطبيعي المسال عندما كانت الولايات المتحدة دولة مستوردة للغاز المسال، وبالتالي أمكن الاستفادة من البنية التحتية القائمة من صهاريج تخزين، وأرصفة تحميل، وخطوط أنابيب لنقل الغاز، وتنفيذ مشاريع تصدير بتكلفة رأسمالية أقل. وقد وصل عدد المشاريع قيد الإنشاء في الولايات المتحدة عام 2019 إلى أربعة مشاريع، وستساهم في جعل الولايات المتحدة ثالث أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2021 بطاقة إجمالية 74 مليون طن/السنة، بعد أستراليا ودولة قطر.
وقد اختتمت الدراسة بأنه من المتوقع أن يستمر الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال في النمو، بما يفوق الإمدادات، لتنشأ فجوة بين العرض والطلب تصل إلى 80 مليون طن/السنة بحلول عام 2025 ثم إلى 125 مليون طن/السنة بحلول عام 2030، ويعود ذلك إلى تراجع الاستثمارات في عدد من مشاريع الإسالة في بعض المناطق بسبب تقلبات الأسعار في السنوات الأخيرة والتي دفعت بعض الشركات إلى تقليص استثماراتها، وهي فرصة سانحة أمام الدول العربية التي لاتزال تسيطر على ثلث حجم التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال، للاستثمار في تنفيذ مشاريع تصدير جديدة لشغل الفجوة المتوقعة وتأمين إمدادات العالم من هذه الطاقة الأقل تلويثاً للبيئة. لكن سيتطلب ذلك نجاح الشركات المطورة لمشاريع الإسالة في إبرام عقود تجارية طويلة الأمد مع المشترين المحتملين لتوفير التمويل اللازم للتنفيذ وضمان الأسواق اللازمة، وهو ما يعد تحدياً أمام تلك الشركات حيث بات المشترون يميلون في الوقت الراهن نحو إبرام عقود قصيرة الأمد أو الشراء من السوق الفورية في ظل وفرة الإمدادات وتعدد المصادر.
إن الأمانة العامة لمنظمة الأوابك تسعى دوما نحو إبراز أخر وأهم المستجدات التي تطرأ على خريطة الطاقة العالمية، ودراسة تداعيتها وانعكاساتها، وإبراز التجارب التي يمكن للدول العربية الاستفادة منها بما يكفل مصالحها ومكانتها المتقدمة كمصدر آمن ومستدام يعتمد عليه في ضمان توفير مصادر الطاقة التقليدية ومن أهمها النفط والغاز.