أصدر المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، اليوم الأربعاء، عددا جديدا من سلسلة التقارير التحليلية "رأى فى أزمة" لتحليل تداعيات أزمة فيروس كوفيد 19 على قطاع الصناعات الدوائية، وهى إحدى الصناعات التى تم تصنيفها ضمن صناعات استفادت من الأزمة، حسب التحليل، وهى من الصناعات الحيوية والضرورية التى تكتسب أهمية خاصة لارتباطها بشكل وثيق بقطاع الرعاية الصحية وتمس صحة الإنسان.
وتأتى هذه الدراسة إلحاقا للدراسة الأولى التى سبق إصدارها عن تأثر الصناعات التحويلية ككل بالأزمة الحالية، وتهدف التقارير التفصيلية إلى تحليل أكثر عمقا وفقا لأنواع الصناعات المتنوعة، وصنفت الدراسة الصناعات التحويلية إلى ثلاثة أقسام وفقا لظاهر تأثير الأزمة عليها فى مراحلها الأولى، وهى: صناعات استفادت من الأزمة، وصناعات ابتعدت عن الأضواء، وصناعات تكافح من أجل البقاء.
ويقدر حجم السوق العالمى للمنتجات الدوائية فى 2019 بحوالى 25.1 تريليون دولار، وتتسم هذه الصناعة بطبيعة احتكارية حيث تخضع سوق تداولها إلى ما يعرف بـ "احتكار القلة"، حيث يسيطر عدد قليل من الشركات على حصة السوق من المنتجات الدوائية، ويعتمد هذا القطاع اعتمادا كبيرا على البحث والتطوير، ويتسم بارتفاع القيمة السوقية للشركات العاملة بصورة ضخمة، حيث تبلغ القيمة السوقية لأقل الشركات 108.6 مليار دولار.
ويتركز إنتاج الدواء فى مصر بالقطاع الخاص بنسبة 94% من إجمالى الاستثمارات ينتج 80%من الأدوية فى مصر، مقابل 6% للقطاع الحكومى الذى ينتج 20% من الأدوية، وتستحوذ شركات القطاع الخاص الأجنبى على 69% من سوق الدواء فى مصر بينما تستحوذ الشركات المحلية على 31% من الحصة السوقية للدواء عام 2018.
ويقدر حجم سوق الدواء فى مصر بنحو 400 مليار جنيه، ليساهم الإنتاج الدوائى بمقدار 3.1% من الناتج المحلى الإجمالى خلال عام 2016/2017، كما يقدر حجم استثمارات صناعة الدواء فى مصر بنحو 80 مليار جنيه "6.8% من إجمالى الاستثمارات فى 2018/2019، ما يعادل إنتاج 5.2 مليار علبة دواء سنويًا، تمثل الأدوية المثيلة النسبة الأكبر منها، حيث تعادل 69.3% من إجمالى العبوات الدوائية المنتجة، فيما تستحوذ مبيعات الأدوية المثيلة على ما يقرب من ثلثى السوق، ويوجد فى مصر 350 منشأة لصناعة مستحضرات الدواء، يعمل بها نحو 84.6 ألف عامل، تمتلك الحكومة منها 3% فقط، مقابل97% مملوكة للقطاع الخاص.
وبالرغم من القيمة السوقية الضخمة لمبيعات مصر من الأدوية فى الشرق الأوسط، إلا أنها ليست الأكثر تطورا فى صناعته، حيث أن إنتاج مصر المتزايد من الدواء لم يواكبه تطورا فى البحث والتطوير ولا محاولات ناجحة لتصنيع المادة الفعالة بدلا من استيراد المكونات الدوائية النشطة الأجنبية من الخارج، حيث تستورد مصر الجزء الأكبر سواء من المدخلات من مواد فعالة ومستلزمات تعبئة وتغليف وغيرها أو من المنتجات النهائية من أدوية ومستلزمات طبية، من الخارج. فيتم استيراد ما يفوق 90% من المواد الخام المستخدمة فى الإنتاج المحلى والذى يغطى 93%من الاستهلاك المحلي. وبلغت واردات مصر من المنتجات الدوائية نحو 2.61 مليار دولار مقارنةً بحوالى 271.85 مليون دولار فقط للصادرات خلال عام 2019، وبالتالى تفوق وارداتنا من المنتجات الدوائية صادراتنا بنحو 9 أضعاف.
وأظهر التحليل عدم تأثر صناعة الدواء فى مصر خلال مراحل ظهور الفيروس الأولى رغم بداية تعطل سلاسل التوريد العالمية بتوقف الشركات فى الصين وبداية نقص الواردات من المواد الفعالة والمستلزمات الطبية والأدوية المستوردة، حيث اعتمدت الشركات على المخزون من المواد الفعالة، فى حين انعكس استمرار هذا التعطل فى التوريد من الصين والهند على انخفاض واردات الأدوية ومحضرات الصيدلة خلال الربع الأول من عام 2020 بنحو 29% مقارنة بالربع المقابل من العام الماضى، مع نقص مخزون بعض شركات الأدوية.
وشهدت مرحلة تفاقم الأزمة فى الفترة من منتصف مارس وحتى منتصف مايو تزايد شلل سلاسل التوريد العالمية للمنتجات الدوائية والمواد الخام، بما انعكس على انخفاض واردات الأدوية ومحضرات الصيدلة بمقدار 10.4%خلال إبريل 2020 مقارنة بنفس الشهر من 2019، كما تراجعت صادرات الأدوية ومستحضرات الصيدلة بنحو 20% خلال شهر مارس2020 مقارنة بمارس 2019، وترتفع النسبة لـ 30% خلال أبريل 2020 مقارنة بأبريل 2019، ونتيجة ارتفاع الطلب والتكالب على أصناف معينة من الأدوية ومستلزمات التطهير والتعقيم انعكس ذلك على ارتفاع المبيعات خلال الربع الأول من 2020 بنحو 12% مقارنة بنفس الربع من 2019.
وشهدت فترة تفاقم الأزمة، نقصا فى أصناف معينة من الأدوية والفيتامينات واختفاء تام لبعضها مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل واضح، وشح مستلزمات الوقاية من الكمامات والكفوف الطبية ومستحضرات التعقيم مثل الكحول وغيره، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها إلى الضعف، ونتج عن ذلك قرارات من وزارة التجارة والصناعة بوقف تصدير الكحول بكافة أنواعه ومشتقاته والماسكات الجراحية، كما تم إلزام الشركات بتوريد مخزونها وإنتاجها لهيئة الشراء الموحد والتموين الطبي.
ومع تضاعف الضغط على الأدوية ومستلزمات التعقيم خلال الفترة من منتصف مايو وحتى نهاية يونيو الماضى، اختفت أصناف بعينها من الأدوية والفيتامينات من السوق، وحدث تراجع حاد فى قيمة الصادرات من الأدوية والمستحضرات الطبية وصل إلى 98% خلال يونيو مقارنة بنفس الشهر من العام الماضى، وإلى 53% عن الربع الثانى من 2020 مقارنة بالربع المقابل من السنة الماضية، فى حين ارتفعت تكلفة الواردات بنحو 115.6% خلال شهر مايو فقط، وانخفضت النسبة إلى 36% فى يونيو الماضى، ليصل معدل ارتفاع فاتورة الواردات خلال الربع الثانى من 2020 إلى 27% مقارنة بالربع المماثل من العام الماضى.
وشهدت الفترة من أول يوليو تراجعا فى أعداد الحالات المصابة وبالتالى تراجع الطلب على الأدوية مع استمراره على الكمامات ومستلزمات التعقيم، ويرتبط تأثير الأزمة على القطاع خلال الفترة المقبلة بتطور المرض، ففى حالة استمرار تباطؤ حدة الأزمة وتعافى القطاع تدريجيا خلال أغسطس المقبل، من المتوقع استمرار ارتفاع فاتورة الاستيراد بنسبة 36% وهو نفس معدل التغير السنوى لشهر يونيو الماضى، أما السيناريو المتشائم فى حالة حدوث انتكاسة مرضية من المتوقع عودة أوضاع شهر مايو من إجراءات وقائية وعجز فى الأدوية والفيتامينات ومستلزمات الوقاية، وارتفاع نسبة الواردات بنحو 115%.
وتوضح الدراسة أن التعافى المتوقع خلال الفترة من سبتمبر وحتى يونيو المقبل يرتبط فى هذه المرحلة بالسيناريوهات السابقة، ففى حالة السيناريو المتفائل الذى يفترض ظهور مصل للمرض وعدم ظهور سلالات جديدة للفيروس، سيحدث عودة حذرة للقطاع مع تباطؤ انتشار المرض، وارتفاع قيمة المبيعات والصادرات وعودة الواردات لطبيعتها تدريجيا، أما فى حالة السيناريو المتشائم والذى يفترض عدم التوصل لمصل أو ظهور سلالات جديدة للفيروس وانتكاسة مرضية وعودة للأجواء الضاغطة السابقة، من المتوقع ارتفاع الأسعار ونقص المخزون من الأدوية مرة أخرى مع تعطل حركة الإنتاج، وتراجع المبيعات والصادرات مع استمرار حركة الواردات طبيعية.
وأكدت الدراسة على أنه بخلاف القطاعات السابق تحليلها، ترتبط الإجراءات اللازمة للتخفيف من حدة الأزمة بأوجه الضعف المؤسسى للصناعات الدوائية بشكل واضح، حيث تنقسم أوجه الضعف المؤسسى لنوعين: النوع الأول ضعف مؤسسى ظهر بالفعل مع تغيير الإطار المؤسسى للمنظومة الإدارية والرقابية، أما النوع الثانى ضعف مؤسسى مزمن يتمثل فى "عوار التسعير" والقائم منذ سنوات عديدة، والاعتماد الرئيسى على الواردات وعدم انتظام سوق الأدوية فى مصر.
وأكدت الدراسة أن هناك تداخل رهيب بين اختصاصات وأدوار كل من الهيئتين المنظمتين حاليا للقطاع وهو النظام المؤسسى حديث العهد، وهما الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبى وإدارة التكنولوجيا الطبية، وهيئة الدواء المصرية، فبالرغم من أهمية التعامل مع جهة واحدة والتى وفرها الهيكل التنظيمى الجديد، إلا أنه قد يكون من المفضل إجراء فصل كامل بين مسئولية الشق التجارى "فيما يتعلق بالتسعير والتصدير وغيرها" والشق الفنى "فيما يخص البحث والرقابة وغيرها".
ولفتت الدراسة إلى أن الشكل المؤسسى الجديد لمنظومة إدارة تصنيع الدواء يتولى مسئولية توزيع الدواء أيضًا، وهو ما يعد غير عملى بالنسبة للتوزيع على مستوى الجمهورية، فمع وجود نحو 75 ألف صيدلية على مستوى الجمهورية يصعب تحقيق ذلك من خلال هيئة الشراء الموحد، ومن ثم، هناك حاجة ملحة للتعامل مع شركات التوزيع المتعارف عليها للقيام بهذا الدور، حيث أنها تقوم به من خلال آلية مالية خاصة فى التعامل مع الصيدليات وأسلوب تمويلى مختلف يصعب تنفيذه من خلال التعامل المباشر مع وزارة الصحة أو هيئة الشراء الموحد.
وشددت الدراسة على أن أحد الإجراءات العاجلة الواجب اتخاذها، يتمثل فى مراجعة أسلوب تعامل هيئة الشراء الموحد مع الأجهزة والمستلزمات الطبية، والذى تعمل به منذ عامين، حيث يتم التركيز على الشراء بأسعار مخفضة كهدف وحيد فى الشراء مما يتسبب فى هروب الاستثمارات المحلية نتيجة لعدم قدرتها على تحقيق الاشتراطات المطلوبة، وبالتالى لابد من سرعة تدارك المشكلة وحلولها حتى لا يتكرر نفس النوع من المشكلات مع الأدوية.
وطالبت الدراسة بالتعجيل بإعداد اللوائح التنفيذية التفصيلية للهيئات التنظيمية الجديدة لبدء انتظام العمل بها، بمعايير محددة للأداء لتجنب احتكار القرار ووقوع ضرر مستقبلى على المستثمرين، وبنظام رقابى واضح على أداء الهيئتين، مع الأخذ بآراء المنتجين "المحليين والدوليين" سواء شركات إنتاج الأدوية أو المستلزمات الطبية فى هذا الشأن، بالإضافة إلى تنظيم العلاقة بين وزارة الصحة والجهات المعنية الأخرى، مع توضيح مهام وأدوار الوزارة.
وعلى جانب الإجراءات المطلوبة لعلاج الضعف المؤسسى المزمن الناتج عن عوار تسعير الأدوية، دعت الدراسة إلى مراجعة نظام التسعير والاسترشاد بتجارب الدول الأخرى فى هذا الصدد بحيث يتم تحديد فئات بعينها "مثل مستشفيات معينة" بأسعار مخفضة ولكن دون تعميم هذه الأسعار على مستوى الجمهورية، لما يسببه ذلك من تراجع دور التصدير فى مجال الأدوية، نظرا للارتباط الشديد بين السعر التصديرى والسعر فى بلد المنشأ، وهو ما يدعو الشركات متعددة الجنسيات إلى الهروب من السوق التصديرى المصرى وهروب البحث والتطوير معها، فى حين يلزم تشجيعها وتشجيع دخول البحث والتطوير إلى السوق، لافتة إلى ضرورة مراجعة موقف الشركات المحلية والوقوف على مشكلاتها سواء فيما يتعلق بالتسعير، أو الاستيراد، أو التصدير، أو الإنتاج.
وفيم يتعلق بأوجه الضعف الخاصة بالاعتماد الرئيسى على الواردات وخاصة المواد الفعالة والخامات الوسيطة اللازمة لإنتاج الدواء، طالبت الدراسة بالتخفيف التدريجى لهذا الاعتماد على الواردات من خلال خلق تميز مصرى عبر مزيد من البحث والتطوير فى مجال الأدوية المعتمدة على النباتات الطبية والطبيعية المصرية، خاصة مع الاهتمام العالمى بهذا النوع.
وأشارت الدراسة إلى أوجه الضعف المتعلقة بعدم انتظام السوق، وهو ما يظهر بشكل رئيسى فى نقص الأدوية واختفاء أصناف هامة خاصة وقت الأزمات، حيث أن 50% من الأصناف المسجلة غير متوفرة، كما يوجد 4 آلاف صنف لم يتم إنتاجها بالأساس رغم تسجيلها، وأيضا انتشار الأدوية المغشوشة أو المهربة، حيث تمثل تجارة الأدوية المغشوشة نحو 10% من مبيعات الأدوية فى مصر، والتى بلغت نحو 60 مليار جنيه فى 2018، متخطية بذلك النسبة العالمية التى تقدر بنحو 6%.
وشددت الدراسة على ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة بشكل مرحلى لتنظيم سوق الأدوية فى مصر للقضاء على ظاهرتى نقص الأدوية وانتشار الأدوية المغشوشة، وخاصة اختفاء الأدوية وقت الأزمات نتيجة للتكالب على أصناف معينة والتسبب فى رفع أسعارها.