أصدر المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، الثلاثاء، تقريرا تحليليا حول الموقف الخارجي للاقتصاد المصرى، وهو العدد الثالث ضمن سلسلة جديدة من تقارير "رأى في أزمة"التى تصدر تحت إشراف الدكتورة عبلة عبد اللطيف، المدير التنفيذى ومدير البحوث بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، والمعنية بالأساس بطرح محاور العمل الاستراتيجية لمرحلة ما بعد الكورونا على صعيد الاقتصاد المصرى، أخذا في الحسبان الوضع الاقتصادى العالمى الجديد الذى فرضته الأزمة.
وتركز السلسلة الجديدة من التقارير على تناول تفصيلى لمجموعة من محركات التغيير، أو القضايا التي يتوقع إذا تم تداولها بالشكل السليم أن تحدث طفرات تنموية كبيرة للاقتصاد المصرى، وقد تكون هذه القضايا تم تناولها مسبقا إلا أنه لم يتم تبنيها بالشكل المطلوب، وبالتالي تحتاج إلى مراجعة، أو قضايا لم يتم التطرق إليها بالأساس رغم أهميتها.
ويهدف هذا التقرير إلى دراسة تأثير أزمة جائحة كوفيد 19 على القطاع الخارجي المصري والفجوة التمويلية الخارجية؛ فقد فرضت صدمة الجائحة مزيدا من الضغوط على ميزان المدفوعات؛ حيث أدى تراجع الإيرادات السياحية بسبب الأزمة وتدفقات الحافظة الخارجة من الأسواق الصاعدة مجتمعان إلى فرض ضغوط شديدة على الحسابات الخارجية لمصر.
وأشار التقرير إلى أن مصر تعاني من عجز في الحساب الجاري بلغ 4% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة يوليو 2014 - مارس 2020، مقارنة بفائض قدره 0.1% في المتوسط في الاقتصادات الصاعدة والنامية الأخرى خلال ذات الفترة. وفي عام 2015/ 2016 بلغ عجز الحساب الجاري مستوى مقلق (6% من الناتج المحلي الإجمالي) بالتزامن مع أزمة عدم استقرار سعر الصرف؛ إلا أن تخفيض سعر الصرف بصورة كبيرة في نوفمبر 2016 قد ساعد على تراجع هذا العجز، ومع ذلك استمر العجز في الحساب الجاري في حدود 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأوضح التقرير أن العجز المستمر في الحساب الجاري خلال السنوات الأخيرة يعكس حقيقة أن معدل الاستثمار في مصر يفوق ما يمكن تمويله من خلال المدخرات الوطنية؛ ما نتج عنه تكوين العجز والذي يحتاج إلى تمويل، وأحد مصادر هذا التمويل هو المدخرات بالنقد الأجنبي من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر وتدفقات الحافظة الوافدة أو الاقتراض الخارجي.
وفسر التقرير السبب وراء تراجع الفجوة الكلية للاستثمارات-المدخرات في مصر، يرجع إلى اتساع العجز في الموازنة الحكومية والذي ارتفع بصورة متصاعدة من 7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004/ 2005 إلى 12.9% في عام 2018/ 2019، لافتا إلى أن مصر تواجه حاليا عجزا مزدوجا في كل من الموازنة العامة والحساب الجاري. ورغم التحسن في مؤشرات الأداء المالي للقطاع الحكومي وتحقيق فائض أولي منذ عام 2017/2018، لا يزال العجز الكلي في الموازنة مرتفعاً بسبب ارتفاع أعباء خدمة الدين. ولذا أصبح العجز في الحساب الجاري عجزا مستمرا، حيث أن كل زيادة في عجز الموازنة الحكومية بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي تتطلب تمويلا بنحو 3 مليار دولار وهو ما ينتج عنه احتياجات تمويل خارجي ضخمة.
وتوقع التقرير سيناريوهين لتطور عجز الحساب الجارى وميزان المدفوعات خلال العام المالى 2020/ 2021، استنادا إلى حالة التعافي في الطلب العالمي، ومستوى التقلبات التي تشهدها التدفقات الرأسمالية إلى الأسواق الصاعدة.
وأشار التقرير إلى أنه وفق السيناريو الأول، من المتوقع أن يشهد الطلب العالمي تعافيا بطيئا وممتدا بسبب الآثار الاقتصادية طويلة الأجل التي خلفتها صدمة الجائحة وتأثيرها على جانب العرض في الاقتصاد. كما من المتوقع أن تشهد تدفقات الحافظة الوافدة إلى الأسواق الصاعدة تقلبات نظرا لظهور موجة ثانية حادة من الجائحة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى عدم التيقن الذي صاحب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما يترتب عليه التوقع بأن يسجل العجز في الحساب الجاري 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020/ 2021 وهو ما يشير إلى فجوة مالية ضخمة، مدفوعا في الأساس بتراجع إيرادات السياحة، وبدرجة أقل بهبوط إيرادات قناة السويس. ويتم تمويل الفجوة التمويلية الخارجية الناتجة عن ذلك في جزء منها بالاقتراض الخارجي، على افتراض استمرار التقلبات في التدفقات الرأسمالية العالمية الوافدة وفقا للسيناريو. ونظرا لحجم الفجوة التمويلية الخارجية، من المتوقع أن يشهد ميزان المدفوعات عجزا يُقدر بنحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مما قد ينتج عنه تراجع في صافي الاحتياطيات الدولية.
أما بالنسبة للسيناريو الثاني "المتفائل"، فمن المتوقع أن يشهد النشاط الاقتصادي تعافيا مطردا في الاقتصادات المتقدمة الكبرى بداية من النصف الثاني من عام 2021، مع استقرار نسبي في التدفقات الرأسمالية إلى الأسواق الصاعدة، وهو ما ينتج عنه توقعات بأن يتراجع العجز في الحساب الجاري ليدور حول 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي تقريبا، ويعمل استقرار التدفقات الرأسمالية الوافدة بفعل ارتفاع فرق أسعار الفائدة على سد الفجوة التمويلية الخارجية جزئيا، ويتم تمويل العجز الناتج في ميزان المدفوعات (نحو 1.5% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي) في الأساس باستخدام صافي الأصول المالية لدى البنوك التجارية بينما يظل صافي الاحتياطيات الدولية ثابتا، مع استقرار إجمالي الدين الخارجي أو ارتفاعه قليلا بحسب وضع التدفقات الرأسمالية الوافدة.
ودعا التقرير إلى تبني نهج متعدد الجوانب لخفض أوجه الضعف في الوضع الخارجي للاقتصاد المصري، لتحقيق هدفين متزامنين: الأول خفض الاعتماد الكلي على التمويل الخارجي، والثانى تغيير مصادر التمويل الخارجي لأخرى تتسم بالاستقرار وتعمل على تعزيز النمو، وهو ما يتطلب تنفيذ توصيات محددة وفق آجال زمنية.
وأكد التقرير أن ضبط أوضاع المالية العامة يشكل نقطة بداية مهمة في الأجل القصير للخروج من دوامة تفاقم أوجه الضعف في الوضع الخارجي للاقتصاد المصري. ومن شأن تراجع العجز الكلي في الموازنة العامة خفض عجز الحساب الجاري وتخفيف الضغط الواقع على ميزان المدفوعات. كما يجب تبني تدابير لزيادة المدخرات المحلية لتحقيق مزيد من التحسن في ميزان الحساب الجاري. وأخيرا، فإن خلق مناخ أعمال مواتِ للقطاع الخاص هو من الأمور المهمة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية المباشرة.
ودعا التقرير إلى اتخاذ ثلاثة إجراءات هامة في الأجل القصير تتمثل في ترشيد الإنفاق الحكومى من خلال ترشيد الإنفاق الرأسمالى على المشروعات الاستثمارية المختلفة، وإحلاله بشراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص يلعب فيها القطاع الخاص دوره الطبيعي، وهو إجراء أثره الانكماشى محدود، وتسوية الديون من خلال عدة تدابير، ومنها أن الجائحة فتحت الباب أمام الدعاوي الدولية بإعفاء الاقتصادات النامية من الديون وإعادة هيكلتها، بجانب آلية مبادلة الديون، بالإضافة إلى أن بيع الأصول المملوكة للدولة والغير مستخدمة يعتبر أحد الاختيارات المجدية، على أن يتم توجيه حصيلة البيع بالكامل لتسوية الديون، وهى إجراءات من شأنها خفض مدفوعات الفائدة ومن ثم خفض العجز الكلي.
وخلال الأجل المتوسط دعا التقرير لإجراءات تتمثل في خفض أسعار الفائدة، وخفض مصروفات الفائدة، وزيادة الإيرادات الضريبية، وفى الأجل الطويل تعزيز المدخرات الخاصة من خلال توفير مناخ اقتصادى كلي مستقر يسمح بتحقيق نمو مرتفع ومستدام في الدخل للفرد، وهو ما يتطلب إطار سياسة عامة تدعم تحقيق نمو عادل، بجانب تعزيز الشمول المالي للاستفادة من مدخرات القطاع غير الرسمي وتوجيهها للاستخدام الإنتاجي، وأخيرا توفير مناخ تمكينى للاستثمارات الخاصة عبر إجراء مزيد من الإصلاحات المؤسسية بالتوازي مع ضبط أوضاع المالية العامة، وذلك لخلق مناخ أعمال موات للقطاع الخاص.