تستمر تداعيات الأزمة العالمية الخاصة بارتفاع مستويات التضخم والزيادة الكبيرة في أسعار السلع بكافة أنواعها بداية من الطاقة وصولاً إلى السلع غير الأساسية وكذلك الأغذية، الأمر هنا لا يقتصر على دولة بعينها، حيث أعلنت وزارة التجارة الأميركية بيانات مؤشر أسعار الإنفاق الاستهلاكي الشخصي الأساسي لشهر سبتمبر 2021، والتي كان يترقبها المستثمرون إذ أنها المفضلة لدى الاحتياطي الفيدرالي.
وكشفت وزارة التجارة الأميركية أن التضخم السنوي ارتفع في البلاد بأسرع وتيرة له منذ أكثر من 30 عامًا وذلك على الرغم من انخفاض الدخل الشخصي، فمؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي بما في ذلك الغذاء والطاقة ارتفع 4.4% على أساس سنوي في سبتمبر... مسجلا أسرع وتيرة نمو له منذ يناير 1991.
وتضيف الوزارة " بعد استبعاد تكاليف الغذاء والطاقة، ارتفع المؤشر، تماشيًا مع توقعات داو جونز، بـ3.6% لفترة 12 شهرًا وجاءت ارتفاعات التضخم المستمرة مع انخفاض الدخل الشخصي بـ1% في سبتمبر على أساس سنوي، أي أكثر من التوقعات بـ0.4%. بينما ارتفع الإنفاق الاستهلاكي بـ0.6% للفترة نفسها، تماشيًا مع توقعات وول ستريت.
وفي المقابل، سجلت أوروبا معدلات تضخم هي الأعلى في 13 عامًا في أكتوبر 2021، في ظل أزمة الطاقة التي تواجهها حاليا حيث بلغ معدل التضخم الكلي 4.1% على أساس سنوي لهذا الشهر، وفقًا للبيانات الأولية من مكتب الإحصاء الأوروبي يوروستات، وهي أعلى مستوى منذ يوليو 2008 . أي أعلى من التوقعات والتي كانت عند 3.7%، هذا وتمثل أسعار الطاقة نحو 23% من بيانات التضخم وهي المساهم الأكبر إلى حد بعيد.
الأزمة العالمية الحالية ظهرت نتيجة الخلل في سلاسل التوريد والإمداد تسببت في ارتفاعات كبيرة سواء في الطاقة أو السلع الأخرى، فمثلا أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا سجلت ارتفاعات 500 % في حين ارتفعت سلع بنسبة 15 إلى 30 % في بعض الدول، وهنا تشير توقعات مراقي الأسواق إلى استمرار الأزمة وارتفاع نسب التضخم لمستويات قياسية قد تصل بالعالم إلى ما يسمي الركود التضخمي وهو الخطر الأكبر الذي يهدد كافة الدول.
القلق المتنامي من خطر التضخم دفع متخصصون في "دويتشه بنك" من إطلاق تحذيرات من حدوث أزمة اقتصادية عالمية قريباً أو في عام 2023 بسبب الآثار السلبية المحتملة للتضخم، فالخطة التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بعدم تشديد سياسته النقدية ومواصلة السياسة التحفيزية وسط ارتفاع التضخم يمكن أن "تتسبب في ركود ضخم، وتطلق سلسلة من الضوائق المالية في أنحاء العالم، لا سيما الأسواق الناشئة"، لكن معظم العاملين في "وول ستريت" يؤيدون وجهة نظر الاحتياطي الفيدرالي بأن الضغوط التضخمية الحالية ليست دائمة، وهو ما يدفع البنوك المركزية على مستوى العالم إلى ترقب الأسعار استعداداً لقرارات خاصة بأسعار الفائدة.
وكشف تقرير حديث لوكالة "بلومبيرج"، أن الأسواق الناشئة التي شددت سياساتها النقدية لكبح التضخم ستجني ثمار ذلك من المستثمرين الأجانب، الذين يراقبون المخاطر المحتملة مستقبلاً مع نمو ضغوط الأسعار، فيما يحاول مسؤولو البنوك المركزية في الدول النامية إحداث توازن دقيق بين دعم اقتصاداتهم، التي لا يزال الكثير منها يواجه الجائحة، والسيطرة على التضخم، الذي قد يصبح تهديداً حقيقياً بفضل الانتعاش الاقتصادي القوي وحزم التحفيز المالي الضخمة في الاقتصادات المتقدمة.
وفق التقرير، فإن "المستثمرين سيفضلون تلك الدول التي تستبق فيها البنوك المركزية التضخم"، مشدداً على أهمية أن تتحرك البنوك المركزية بشكل استباقي حتى لا يعود التضخم إلى معدلات منتصف العام الماضي وتتعرض البنوك المركزية لضغوط الانكماش وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت نفسه تكون مطالبة بتوفير ما يلزم لإطلاق خطط تحفيز جديدة بمبالغ ضخمة.
التشابك الواضح بين الدول في الأزمة الحالية، يجعل البنوك المركزية تجرى حسابات معقدة لاتخاذ قرارات مناسبة بشأن مستقبل أسعار الفائدة، لإيجاد أفضل السبل للخروج من الأزمة الحالية، وفي نفس السياق الأسواق تتعرض لضرر واضح جراء النقص في الخامات اللازمة لعمليات الإنتاج، وهذا يعني مزيد من الارتفاعات في الأسعار العالمية الفترة المقبلة وصعود مستمر لمؤشر التضخم.
أزمة الطاقة في أوروبا
تتفاقم أزمة الطاقة في أوروبا للشهر الثاني على التوالي، وكافة الدول تضع في حسبانها سيناريوهات استمرار ارتفاع الأسعار خلال الفترة القادمة، مع استمرار الخلل الكبير في عملية التوريد وتلبية الاحتياج العالمي المتنامي، وكذلك ارتباك عمليات التسعير المستقبلية للطاقة بكل أشكالها، الأمر الذي يجعل هذا الشتاء شديد البرودة على المستهلكين مع تضاعف فواتير الكهرباء والغاز بصورة لافتة.
قبل التطرق إلى أسباب أزمة الطاقة الأوروبية أو تداعيتها أو حتى مستقبل الأسعار، لابد أن نجيب على تساؤل هام وهو لماذا أوروبا وحدها هي التي تعاني حاليًا أكثر من غيرها جراء هذه الأزمة، رغم أن الارتفاع في الأسعار "عالمي" ليس على القارة العجوز وحدها؟، وهنا الإجابة تكمن في محاولات أوروبا الحد من الاعتماد على النفط فاستهلاكها من الخام العالمي يصل إلى نحو 12%، وقد جهزت نفسها لاستخدامات الغاز الطبيعي كمرحلة انتقالية للتخلص من الوقود الأحفوري، النفط تحديدا، وليكون جسرا ينقلها للطاقة النظيفة.
و عند مقارنة نسبة ارتفاع الغاز الطبيعي والتي اقتربت من كسر حاجز 500 % منذ بداية العام مقابل حركة ارتفاع النفط، سنجد أن الدول المعتمدة بصورة أوسع على الغاز الطبيعي هي الأكثر تضرراً الآن مقارنة بالدول المعتمدة على النفط، لذلك سيعاني المواطن الأوروبي من برودة الشتاء في ظل فاتورة ستكون باهظة التكلفة، ونقص حاد في الامدادات سواء من روسيا التي تعتبر مصدر ومورد رئيسي للغاز الطبيعي للقارة العجوز أو من دول أخري.
وكشفت دراسة بحثية عن أزمة الطاقة الأوروبية، أن شتاء العام الماضي الطويل سبب نقصا في مخزونات الغاز وأثر على جاهزية إمدادت الغاز للشتاء القادم، كما أن الرياح لم تكن كافية لتوليد الطاقة في أوروبا، أما الروس فلم يكونوا جاهزين لمثل هذا الطلب من حيث الطاقة الإنتاجية وقد وضعوا الأولوية للاستهلاك المحلي وروسيا تضخ الآن بكامل سعتها الإنتاجية، بحسب نايف الدندني الباحث الذى أعد هذه الدراسة".