نظرات العينين المتطابقة العميقة تؤكد أن صاحبيها يربطهما رباط غريب ويجمعهما تشابه قوى، حتى وإن لم يكن هناك تشابه فى الملامح أو لم يكونا تقابلا من قبل، ولكن القدر شاء أن تتقابل روحيهما وتتلاقى فى نقاط كثيرة، وأن يتشابه مصيريهما، وكأنهما رضعا معا عذاب اليتم فأصبحا توأمين تجمعهما الكثير من الصفات المشتركة والمعاناة المستمرة.
العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ والنمر الأسود أحمد زكى أشهر أيتام الفن وأكثرهم إبداعاً وعذاباً ومعاناة وبقاء ، جمعهما اليتم والمرض والمعاناة والفن والإبداع وحتى تشابه المصير.
ليس بغريب مع كل هذا التشابه أن يكون آخر ما جسده النمر الأسود فى حياته الفنية هو شخصية العندليب، وليس غريباً أن يؤدى هذا الدور وهو يتألم ويعانى من عذاب المرض فيتوحد مع ألام العندليب وأن يكون مشهد موت حليم فى الفيلم هو نفس مشهد موت أحمد زكى ونفس جنازته، وأن يفارق كلاهما الدنيا فى نفس الشهر مارس.
وحد اليتم شخصية المبدعين ونظرة الشجن والحزن العميقة فى عينيهما، حيث ولد عبدالحليم شبانة في قرية الحلوات بالشرقية، وهى نفس المحافظة التى ينتمى إليها النمر الأسود أحمد زكى.
رحلت والدة حليم بعد ولادته مباشرة، وكان العندليب الابن الأصغر بين أربعة إخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية، لم يذق الرضيع الصغير طعام حنان الأم، كان يتضور جوعا ولهفة للحنان فكان اخوته يلجأون لنساء القرية اللاتى يرضعن ليحصل الصغير على رضعة تسد جوعه أو إلى لبن الماعز حين يتعسر الأمر، ولم يقتصر عذاب الصغير على فقد الام ، بل رحل والده 6 أشهر من مولده ليصبح حليم يتيم الأب والأم، فاقدا لكل مصدر من مصادر الحنان والعطف وتولى خاله تربيته، حتى كبر وتولت رعايته شقيقته "علية" ، التى كان يعتبرها والدته وأقرب الناس لقلبه.
وحتى مصدر اللهو الوحيد لحليم اصبح مصدر الألم والوجع والمرض الذى لاحقه طوال حياته، فحين كان يلعب من الصبية الصغار فى ترعة القرية انتقل إليه مرض البلهارسيا الذي عانى منه ومن مضاعفاته حتى وفاته.
وبعد ان اشتد عوده التحق حليم بملجأ للأيتام، قضى فيه تسع سنوات كاملة، ورغم صعوبة الحياة فى ملجأ ظهرت مواهب حليم فى الغناء خلال هذه الفترة، وخرج منه ليلتحق بمعهد الموسيقى العرية ويبدأ مشواره الفنى الذى واجه فيه الكثير من الصعوبات حتى أصبح العندليب الأسمر اشهر مطربى عصره وكل العصور، وظلت معاناته مع المرض تزداد مع كل نجاح حتى فارق الحياة.
وهكذا كانت حياة النمر الاسود أحمد زكى الذى ولد فى مدينة الزقازيق عام 1949، وتوفى والده بعد شهور من مولده، وبعدها تزوجت والدته وانتقلت إلى قرية أخرى فانتقل ليعيش مع جده لوالده.
كان الطفل الأسمر يشعر بالوحدة والحزن الدائم وكان يعتقد دائما أن والدته تخلت عنه وتركته، خاصة أنه رأى أمه للمرة الأول وهو فى سن 7 سنوات وحك أحمد زكى عن هذه المرة التى رأى فيها أمه للمرة الأولى قائلا: "أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا أخوة، ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة، ذات يوم جاءت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر لي بعينين حزينتين، ثم قبلتني دون أن تتكلم ورحلت، شعرت باحتواء غريب، هذه النظرة إلي الآن تصحبني، حتى اليوم عندما تنظر إلي أمي أرى نفس النظرة، في السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب أو أم، وإلى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما أشعر بحرج بالغ ويستعصي علي نطق الكلمة"، وفى المرات القليلة التى ذهب فيها الطفل لزيارة أمه ف بيتها ومع إخوته غير الأشقاء كان يشعر بالغيرة والحزن لأن إخوته يستطيعون أن يبقوا مع أمه بينما هو محروم منها دائماً.
وعانى أيضا النمر الاسود فى بداية حياته الفنية بسبب لون بشرته الأسمر حيث عزف المخرجون عن إختياره فى الكثير من الادوار ومنها فيلم الكرنك الذى رشح فيه للبطولة أمام السندريلا سعاد حسنى ولكن واجه الكثير من الاعتراضات لانهم استكثروا ان تحب السندريلا هذا الفتى الأسمر فى الفيلم، ولكنه عافر حتى أثبت موهبته وحصل على دور البطولة أمام السندريلا فى فيلم شفيقة ومتولى ، وغيرها وتوالت نجاحاته وأعماله العبقرية.
عانى النمر الأسود مثل العندليب مع مرض سرطان الرئة ولكن هذه المعاناة لم تمنعه من مواصلة الإبداع حتى أخر أنفاسه، وجسد النمر الأسود شخصية العندليب وهو ينازع االمرض ويصارع الموت حتى أنه فقد بصره أثناء تصوير مشاهد الفيلم، وتوفى فى نفس الشهر الذى توفى فيه العندليب الأسمر.