ما أصعب أن تقدم شخصية روائية خصوصا إذا كانت شخصية ذات بهاء وحضور طاغى، أو شخصية مليئة بالتناقضات، عندما تمسك برواية أدبية تأخذك بكل عوالمها وشخصياتها لتحلق بعيدا، تضفى إليها من روحك أو العكس، وكثيرة هى الشخصيات الروائية التى كان يصعب تحويلها إلى أعمال درامية أو سينمائية، ومن ضمن هذه الشخصيات شخصية "محمود عبد الظاهر" بطل رواية المبدع بهاء طاهر "واحة الغروب".
تلك الشخصية الثورية والتى تملك حسا وطنيا، يرغب في خلاص الوطن وهو ظابط مصري ولكن يعمل للأسف تحت إمرة الإنجليز الذى من المفترض أن يناضل ضدهم، ولكنه وتحت ضغط الخوف والفصل من الجيش يخون مبادئه والثورة، هو الرجل الذي يتساءل دوما حول وجوده وماهيته وماذا يفعل؟ هو الرجل الذى يقع فى غرام نعمة.. ويتنفس رائحتها، ولا تستقر روحه إلا بوجودها بجواره، ولكن عندما تسأله "بتحبنى يا سيدى".. ينتفض وتتحول ملامحه من الرقة واللين إلى القسوة والحدة مرددا على مسامعها: "أنتى مجرد جارية أوعى تنسى نفسك"، هو نفسه الذى يعامل كاثرين بتعالى ظنا منه أنها إنجليزية، ولكن بعد أن يكتشف أنها آيرلندية.. يوقعها في شباكه مثل صياد محترف، وفي لحظات يتماهي مع فريسته، ولكن لأن روحه لا تعرف الاستقرار يبحث عن روحه وهي نعمة في كل النساء، لا يمانع أن يصطحب امرأة من الحانات أو البارات، ويذهب ويعترف لكاترين بكل بساطة عندما تسأله لأنه لا يريد أن يكذب عليها.. هو محمود الذى يفتش عن نفسه وروحه فلا يجد إلا الفراغ لذلك يبحث عن الخلاص ويصبح دوما أقرب إلى الموت.. هو محمود الذي يقول لنفسه :"أنا العاجز عن النوم أقضى الأيام والأعوام في تلفيق صلح مع نفسي لا يعيش طويلا أين هي براءة العمر الأولي عندما كانت الأشياء سهلة وبسيطة وطمأنينة النفس تأتى بلا تعب ولا تعقيد" أو حكيه لنفسه عن المصريين وكأنه ليس جزءا منهم أو ينظر إليهم من عليائه :"أنتم صامتون صابرون بل راضون فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر تثير فيكم النخوة والحمية، أيها المصريون لا حياكم الله ولا بياكم مادمتم تعيشون كالسائلة تأكل من حشائش الأرض أيها المصريون شموا رائحة أجسادكم إنها نتنة ونيل الله يجرى بأرضكم".
تلك الجمل الحوارية، وأفعال الشخصية وسلوكها كانت في ظني مفتاح النجم خالد النبوي لدراستها، فهي شخصية مليئة بالتناقضات وانفعالاتها مكتومة لا تخرج كثيرا إلا في لحظات _(راجع مشهد انفعاله على زوجته كاثرين عندما صرخ في وجهها بألا ترفع صوتها في المنزل ، وقارن بينه وبين آدائه في المشهد الذي واجهته فيه بالخيانة وهو يجيب بهدوء وهو سكران ومنتشي بالإيجاب مرددا عايزانى أكذب عليكى).
تلك الحالة الإبداعية والتى عادة ما تصاحب النبوى في تجسيده لشخصيات صارت أسمائها وملامحا محفورة في أذهاننا.. يقدمها النبوي في واحة الغروب وفي ظني أنه يحلق بعيدا ويغرد في منطقة خاصة .. بتجسيده لشخصية "محمود عبدالظاهر".. حيث حولها لشخصية ساحرة تأسر القلب والعقل معا وتجعل المشاهد يتماهى معها، خصوصا أن في علاقته مع النساء في المسلسل ستجد أنه يلعب على شعرة رفيعة ما بين سحر الشخصية وقدرتها على الغواية ليقع من أمامها أسيرا لها .. وتابع كيف تتغير نبرة صوته ونظرة عينيه _(مشاهده مع نعمة وكيف يصبح طفلا ينام في حجرها، مشاهده مع زميله الضابط جسده بتميز خالد كمال، وتلون أداء الشخصية في مشهد التحقيق معه من قبل الضباط الإنجليز).
وفى ظني أن خالد النبوي تعامل مع مسلسل الغروب كأنه واحد من أهم مشروعات عمره حمل الشخصية في داخله وظل يضيف ويرسم تفاصيل لها،كما أنه يهتم بجميع عناصر العمل وهذا انطلاقا من خبرته وقدرته علي الاختيار والاستغناء في أحيان أخرى، فهو لا يقدم أدوارا تحت أي منطق اضطراري ولو فعل يجتهد ليضفي على الشخصية بريقا خاصا.
محمود عبد الظاهر شخصية روائية صاغها الكاتب بهاء طاهر بحرفية وعبقرية ونجح النبوي في فك طلاسمها وتناقضاتها لذلك حولها على الشاشة إلى شخصية بديعة صعب أن تتكرر وهي شخصية ساحرة وأسرة في إطار عمل يفيض بالفن ويعلي من قيمته في جميع عناصره الفنية تمثيل وإخرج وتصوير وإضاءة وأزياء وديكورات للمبدع فوزي.
ليس من السهل علي أي فنان أن يكون محمود عبد الظاهر ولكن فعلها النبوي والذي أعتقد أنه سيظل أسيرا للشخصية لفترة من الوقت ويكفي شغفه وإصراره علي استكمال مشاهده رغم خطورة وضعه الصحى.