17 عامًا غاب خلالها رائد المسرح المصرى، الجوكر محمد صبحى، منذ أن قدم رائعة نجيب الريحانى "لعبة الست" عام 2000، تاركا خلفه فراغًا يبحث عن فنان يملؤه، وانصرف النجوم عن المسرح إلى السينما والتليفزيون، سعيا وراء انتشار أسرع وتحقيق عائد مادى أكبر، ليظل المسرح المصرى يعانى، باستثناء محاولات خلفت ظاهرة "مسرح الفضائيات" وحققت صدى واسعا وقبولا جماهيريا كبيرا وسط انقسام النقاد والمسرحيين حولها، استحسنها البعض وأرجع إليها فضل عودة الجمهور للمسارح مرة أخرى، وهاجمها آخرون إلى الحد الذى جعلهم يصفونها بـ"اسكتشات كوميدية مبتذلة لا تمت للمسرح بصلة"، لكن كل ذلك لم يمنع ظهور تجارب أخرى جعلت من "اللا مسرح" أثرا تقتفيه.
عاد صبحى من جديد بمشروع "مهرجان المسرح للجميع" فى أولى عروضه، إذ بدأ من حيث انتهى، برائعة أخرى لنجيب الريحانى "غزل البنات"، فى محاولة جادة لإحياء تراثنا الفنى من جانب، وإذابة الهوة بين ماضينا وحاضرنا من ناحية أخرى، فهو فنان مهموم بالتراث، يفتش فيه، مهتم بقضاياه، إذا جمعتك جلسة به لا يخلو حديثه عن الريحانى ويوسف بك وهبى، وتأثيرهما فى المسرح المصرى، وتأثره بهما، يدين لهما بالفضل، ويؤمن أن لولاهما ما كان جيله.
العرض نوستالجيا فنية بديعة، بداية من تقديم الموسيقى والأغانى بتوزيع جديد، وكوميديا راقية دون ابتذال أو تصنع، وآداء ممثلين تجنبوا الوقوع فى "شرك التقليد"، على اعتبار أن شخوصهم قدمت من قبل فنانين عظماء ضمن أحداث الفيلم، أمثال ليلى مراد، أنور وجدى، سليمان نجيب، وعبد الوارث عسر، فكان لكل ممثل من أبطال المسرحية بصمته، ليكتب العمل شهادة نجاح لتجربة مسرحة علامات السينما المصرية فى تاريخنا المعاصر.
عند الحديث عن أفلام "الأبيض والأسود" فى مقارنة بسينما اليوم، كثيرا ما يضع النقاد والفنانون تلك الأعمال فى قالبها الزمنى، مؤكدين أن ما يصلح تقديمه فى الماضى لا يمكن قبوله اليوم، هذا التصور وإن كان فى نظر البعض صحيحا، إلا أن الفنان محمد صبحى أثبت عكسه تماما، بتقديمه أعمالا من كلاسيكيات السينما المصرية وأكسبها روحًا معاصرة، معولًا على التناول فلم يكن القالب الزمنى عقبة أمامه، ليصبح صاحب مدرسة مسرحة الأعمال السينمائية الكلاسيكية دون منافس.
كثير من القائمين على الصناعة عند تقديم عمل تليفزيونى يتناول السيرة الذاتية لأحد الفنانين يواجهون صعوبة بالغة عند اختيار البطل، الأمر أكثر صعوبة عند الحديث عن ليلى مراد، ولنا فى الفنانة صفاء سلطان عبرة بعد تقديمها الشخصية فى مسلسل تليفزيونى، ونالت ما نالته من هجوم سواء من النقاد أو من ذوى الفنانة الراحلة، مؤكدين أن ليلى مراد لم تكن كما ظهرت على الشاشة بالمرة، والسؤال من يصلح لتقديم تلك الشخصية، وإذا عرض أحدهم العمل على أعتى فنانات مصر والوطن العربى لترددت وفكرت وانتهت إلى رفض الفكرة جملة وتفصيلا، هل سيكون معيار الاختيار الصوت، أم الشبه، أم القبول؟ ومن الصعب أن تتوافر كل تلك الصفات فى فنانة واحدة، معادلة صعبة، لكن الفنان محمد صبحى حلها ببساطة، إذ فاجأ الجمهور بإسناد الدور لوجه جديد "ندى ماهر" موهبة تجمع بين الحسنيين "التمثيل والغناء"، نقر بأنه لا يشبهها بليلى مراد صوت أو شكل، إلا أنها قدمت الشخصية بعيدا عن فخ المحاكاة فجاء أداؤها مقنعا إلى حد كبير .
لا يمكننا تخطى الحديث عن أبطال العمل دون أن نوجه التحية للفنان عبد الرحيم حسن، الذى لعب شخصية سليمان نجيب "الباشا الثرى" ضمن الأحداث ببراعة، وخلق مع صبحى منطقة كوميدية، انتظرها جمهور المسرح بين مشهد وآخر.
وكعادته لم يغفل صبحى تسليط الضوء على الوجوه الجديدة، منذ أن أنشأ فرقة استوديو الممثل ، وخرج من تحت عباءته نجوم أمثال، منى زكى، ومصطفى شعبان، وفتحى عبد الوهاب من خلال مسرحية" بالعربى الفصيح"، وكذلك هانى رمزى وعبلة كامل وشاركاه مسرحية "وجهة نظر" ، وأحمد آدم وصلاح عبد الله فى "الهمجى"، إذ يشارك بمسرحية "غزل البنات" وجوه فى أول ظهور لهم بجانب ندى ماهر ، ومنهم عمار الشماع، محمد يحيى، مصطفى يوسف، محمد سابق، سارة رامى، أحمد جمال، بوسى الهوارى، حازم القاضى.
"غزل البنات" لغة فنية تحترم عقل المشاهد ولا تتعالى عليه، أو كما يقول الأستاذ "دون تسطيح أو تقعير"، تلك القاعدة التى يؤمن بها ويترجمها فى جميع أعماله.. عودًا حميدًا للفنان محمد صبحى بـ"مهرجان المسرح للجميع"، ودمت لنا بفنك مبدعًا.