قرار مجلس الوزراء السوداني، الصادر مؤخرا بشأن ضبط أنشطة شركات التعدين وتنظيم استخدام مادتي الزئبق والسيانيد، المضرتان صحيا وبيئيا، محاولة من المجلس السيادى والحكومة الانتقالية في السودان لمواجهة الانتهاكات الاقتصادية والبيئية، والصحية الجسيمة، التي ظلت ترتكبها الشركات الإخوانية العاملة في القطاع منذ وقت طويل .
فالقرار حسبما نقلت "سكاي نيوز عربية"، لا يعد إلا خطوة متقدمة في الاتجاه الصحيح، على لسان خبراء ومراقبون ومختصين فى مجال التعدين بالسودان ، والتطبيق الصارم للقرار سيحقق الفائدة القصوى للاقتصاد الوطني وسيوقف الاستهتار الممنهج، الذي كانت تمارسه تلك الشركات في حق سكان وبيئات المناطق الواقعة في نطاق أنشطة التعدين.
تاريخ من الانتهاكات
شهدت أنشطة التعدين في ظل السيطرة الإخوانية في السودان اختلالات ومفارقات كبيرة صاحبت المنحى التصاعدي لإنتاج الذهب خلال السنوات الخمس الماضية، فعندما بلغ إنتاج المعدن الأصفر في عام 2013 نحو 50 طنا كان الدولار يعادل 6.3 جنيهات، إلا أن قيمة الجنيه انخفضت بشكل دراماتيكي في نهاية 2018 وقفز الدولار إلى 70 جنيها رغم ارتفاع إنتاج الذهب إلى 107 طنا في ذلك العام، وهذا الوضع لا يتسق مع القاعدة الاقتصادية، التي ترجح ارتفاع قيمة العملة كلما تزايدت احتياطيات الذهب والنقد الأجنبي.
وفي الجانب الآخر ارتفعت خلال نفس الفترة معدلات الكوارث البيئية وازداد معدل انتشار الأمراض الخطيرة المرتبطة بمخلفات أنشطة التعدين لتطال 15 بالمئة من السكان في نهاية 2018 بدلا عن 4 بالمئة في نهاية 2013، وهو ما يعني إهمال شركات التعدين، التي يسيطر عليها نافذون في تنظيم الإخوان، للمعاير والقواعد الأخلاقية الواجب اتباعها.
ونقلت "سكاى نيوز" عن البيئي محمد صلاح، بيئة قطاع تعدين الذهب، التي كانت سائدة في السودان، بأنها انعكاس مباشر لطبيعة الدولة الموازية، التي انشأها الإخوان في السودان والتي مكنتهم من السيطرة على كافة القطاعات الاقتصادية بما في ذلك قطاع الذهب، ويلخص صلاح تلك الانتهاكات في شقين الأول اقتصادي ويتمثل في تركيبة القطاع واختلاط الجانبين الاستثماري والرقابي، وهو ما أحدث تضاربا صارخا في المصالح برزت ملامحه بشكل جلي في الدور المزدوج، الذي تلعبه الشركة السودانية للموارد المعدنية، والتي تدار من قبل عناصر إخوانية صرفة.
غياب البعد الأخلاقي
فالسيطرة الإخوانية والأمنية على شركات الذهب جعلت من الصعب تتبع عمليات الإنتاج والتسويق والرقابة على الانتهاكات الاقتصادية والبيئية وهو ما أفقد الخزينة العامة موارد مليارية.
أما الشق الثاني فهو إنساني ويجسد غياب البعد الأخلاقي عن أجندة تلك الشركات وبرز في الكوارث البيئية والصحية، التي لحقت بسكان مناطق التعدين، حيث تشير بيانات موثقة إلى 1400 حالة إجهاض وتشوه أجنة في منطقة كردفان وحدها، إضافة إلى نفوق آلاف الحيوانات وتدمير مساحات زراعية وغابية ضخمة.
أرقام ومفارقا.ت
وتشير تقارير إلى أن نحو نصف الإنتاج الفعلي من الذهب في السودان والمقدر بأكثر من 100 طن سنويا يتم تداوله خارج القنوات التسويقية والمصرفية الرسمية مما يفقد الاقتصاد مليارات الدولارات سنويا.
ويقدر عدد شركات الذهب العاملة في السودان بنحو 423 شركة معظمها مملوكة إما لنافذين في حزب المؤتمر الوطني (الجناح السياسي للإخوان) أو لمجموعات تعمل ضمن منظومة المجموعات الاقتصادية والأمنية التابعة للتنظيم، في حين تمتلك شركات وكيانات أجنبية الجزء المتبقي، إلا أنها تجبر على دفع عمولات وحصص لذات المجموعات النافذة.
ورغم احتلال السودان المركز الثاني أفريقيا والتاسع عالميا في قائمة أكبر البلدان المنتجة للذهب في عام 2018، إلا أن بريق المعدن الأصفر لم ينعكس على الأوضاع الاقتصادية في السودان، التي ازدادت سوء بعد ارتفاع الإنتاج، وفي الواقع لم تسجل البيانات الرسمية سوى 1.8 مليار دولار كعائدات للذهب، وهو ما يثير العديد من التساؤلات بشأن الآليات والطرق التي يستفاد من خلالها من الذهب كمورد من موارد الدخل القومي.
ونظرا لسيطرة شركات الحزب الحاكم ومؤسسات على معظم أنشطة تعدين وتسويق الذهب، فقد تعرضت كميات ضخمة منه للتهريب عبر المنافذ الرسمية من مطارات وحدود برية، كما لم تضع الحكومة سياسات جاذبة لتمكين البنك المركزي من شراء الذهب والاستفادة منه في دعم قيمة العملة المحلية.
وفي هذا السياق، يقول الخبير المصرفي، محمد عصمت، إن الأمر سيكون مختلفا جدا في ظل وجود سياسات حكيمة تعلي المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، على عكس ما كان سائدا خلال فترة حكم الإخوان، ويشدد عصمت على ضرورة توجيه موجودات ومدخولات الذهب في اتجاه دعم الاقتصاد الوطني وتعزيز قيمة العملة المحلية.، وعبر عصمت عن عدم استغرابه من المعادلة العكسية، التي حدثت في السابق، طالما أن معظم الشركات كانت تتبع لجهات متنفذة ذات صلة مباشرة بنظام المؤتمر الوطني المخلوع، ولا تخضع لإشراف ورقابة البنك المركزي والمراجع العام.
ممارسات لا أخلاقية
وتلجا شركات التعدين الإخوانية لأساليب وممارسات غير أخلاقية وبعيدة كل البعد عن المعايير والأسس الصحية والبيئية المتفق عليها دوليا.
ويشير الأستاذ بكلية العلوم بجامعة الخرطوم، عمران فضل عثمان، إلى وجود مشكلة حقيقية تكمن في طريقة التعامل مع مادتي الزئبق والسيانيد، حيث لا توجد سيطرة كافية على هذه المواد الشديدة الخطورة على صحة الإنسان والبيئة.
ويؤكد عثمان على ضرورة وضع الإنسان أولا عند التعامل مع مسألة معقدة ومتشابكة العمليات مثل مسألة التعدين على الذهب، فهي وعلى الرغم من فوائدها الاقتصادية الكبيرة وتوفيرها لمصدر دخل جيد للكثير من الناس، إلا أن الكوارث الصحية والبيئية التي تتسبب فيها تكون أكبر حجما وأثرا من فوائدها الاقتصادية.
ومن أجل إيجاد مقاربة مناسبة للاستفادة من أنشطة تعدين الذهب لتعزيز الأداء الاقتصادي، وفي نفس الوقت الاهتمام بتفادي التأثيرات الصحية والبيئية السالبة، يطالب فضل بضرورة تطبيق الضوابط والأسس والمعايير الجديدة بشكل صارم جدا.
ويعزي الفوضى، التي حدثت خلال الفترة الماضية والتي تسببت في أضرار صحية وبيئية بالغة للكثير من السكان المحليين، إلى انتشار أنشطة التعدين بشكل عشوائي وفي مساحات جغرافية شاسعة، إضافة إلى عدم وجود رقابة حكومية فاعلة والنفوذ الأمني والتنظيمي الكبير الذي كانت تتمتع به الكثير من تلك الشركات.
بداية في الطريق الصحيح
ووفقا لأمين أمانة حقوق الإنسان في حزب المؤتمر السوداني، عادل بخيت، فإن قرار مجلس الوزراء يعتبر بداية في الطريق الصحيح لوضع حد لاستهتار شركات التعدين الإخوانية بإنسان المناطق الواقعة في مناطق التعدين ، وتعريضه للكثير من الكوارث الصحية والبيئية، التي دفع ثمنها غاليا خلال الفترة الماضية.
وأشار بخيت إلى ضرورة تضافر الجهود الرسمية والمجتمعية من أجل تحقيق الفوائد المرجوة من عائدات القطاع واستخدام الجزء الأكبر منها في تنمية وتطوير المناطق، التي تتم فيها أنشطة التعدين وربطها بالخدمات الصحية والتعليمية مع ضرورة إلزام الشركات بتعويض أهالي تلك المناطق عن الأضرار، التي لحقت بهم من جراء الممارسات الجائرة، التي لحقت بهم في ظل النظام السابق، واعتبر بخيت القرار مؤشر نوعي على عزم الدولة السودانية على الإيفاء بالتزاماتها تجاه حقوق الإنسان ورسالة إيجابية لأسر الضحايا.