أعرب المديرون التنفيذيون بصندوق النقد الدولي عن بالغ قلقهم إزاء الأزمة العميقة متعددة الأبعاد التي تواجه لبنان لأكثر من ثلاث سنوات، مؤكدين أنها أدت إلى انهيار حاد في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وأقر المديرون التنفيذيون في الصندوق بصعوبة الوضع السياسي، وأبدوا أسفهم حيال الإجراءات المحدودة التي تم اتخاذها على مستوى السياسات للتصدي للأزمة.
وأشاروا إلى المخاطر والتكلفة المتزايدة الناجمة عن مواصلة إرجاء الإجراءات اللازمة، ودعوا إلى ضرورة التنفيذ الحاسم لخطة إصلاح شاملة لحل الأزمة وتحقيق التعافي المستدام. كما أكد المديرون على الدور الحيوي المحتمل للدعم من قبل المانحين في إنعاش الاقتصاد واستقراره بمجرد البدء بتنفيذ الإصلاحات. وتطلعوا إلى تعميق التعاون مع الصندوق وغيره من الأطراف المعنية الرئيسية لدعم جهود الإصلاح والاحتياجات الإنسانية العاجلة.
جاء ذلك في تقرير أصدره صندوق النقد الدولي الدولي الخميس حول نتائج مشاورات المادة الرابعة التي أجراها المجلس التنفيذي للصندوق مع لبنان بتاريخ 1 يونيو الجاري، حيث تنص المادة الرابعة من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على إجراء مناقشات ثنائية مع البلدان الأعضاء تتم في العادة على أساس سنوي.
ويقوم فريق من خبراء الصندوق بزيارة البلد العضو، وجمع المعلومات الاقتصادية والمالية اللازمة، وإجراء مناقشات مع المسؤولين الرسميين حول التطورات والسياسات الاقتصادية في هذا البلد. وبعد العودة إلى مقر الصندوق، يُعِد الخبراء تقريرا يشكل أساسا لمناقشات المجلس التنفيذي في هذا الخصوص. في ختام المناقشات، يقوم مدير عام الصندوق، بصفته رئيس المجلس التنفيذي، بتقديم ملخص لآراء المديرين التنفيذيين، ثم يُرسَل هذا الملخص إلى السلطات في البلد العضو.
وشدد تقرير الصندوق على أهمية المصداقية في إعادة هيكلة النظام المالي لاستعادة سلامته واستمراريته. ودعوا إلى اتخاذ إجراءات مسبقة لمواجهة الخسائر الضخمة، وأكدوا على ضرورة توفير أقصى حماية ممكنة لصغار المودعين. وأشار عدد من المديرين إلى أنه ينبغي النظر في المزيد من الخيارات لتوفير حماية إضافية للمودعين وفق المبادئ المتفق عليها، مما قد يساهم في دعم جهود إعادة الهيكلة. وأكدوا على أن استخدام الموارد العامة ينبغي أن يكون محدودا وأن يتناسب مع هدف استدامة الدين. كما شددوا على ضرورة معالجة مواطن الضعف في قانون السرية المصرفية وتعزيز الإطار المؤسسي للمصرف المركزي.
وأكد أهمية خفض معدلات التضخم المرتفعة، ومعالجة التدهور الحاد في سعر الصرف، وإعادة بناء مصداقية المصرف المركزي. وأوصوا بتشديد السياسة النقدية وتعزيز الجهود للحؤول دون تمويل الحكومة من خلال المصرف المركزي. وأكدوا على أن توحيد أسعار الصرف الرسمية سيساعد في تنظيم السياسة النقدية بدرجة أكبر، والحد من الضغوط على احتياطيات المصرف المركزي، وزيادة إيرادات المالية العامة.
وركز التقرير على ضرورة ضبط أوضاع المالية العامة على المدى المتوسط، مصحوبا بإعادة هيكلة الدين العام، لاستعادة الاستدامة المالية وإتاحة الحيز اللازم للإنفاق الاجتماعي والإنمائي. ودعوا إلى التعجيل بإقرار ميزانية لعام 2023 تتسم بالمصداقية وتقوم على إجراءات لإدارة الضرائب والإيرادات لدعم الإنفاق الاجتماعي والإنمائي الضروري. وأشار المديرون إلى ضرورة اتخاذ إجراءات شاملة لتعزيز الإيرادات، وبذل الجهود لتحسين الإدارة العامة وكفاءة الإنفاق.
وأكد أن إقرار قانون حديث لإدارة المالية العامة سيساعد في اعتماد ممارسات أكثر حزماً وتعزيز الضبط المالي، ودعا إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية طموحة لمعالجة مواطن الضعف التي عانى منها لبنان طويلا وتعزيز النمو. وأشار المديرون إلى أهمية الحد من مخاطر المالية العامة، وأوصوا باتخاذ إجراءات لتحسين الحوكمة ودعم استمرارية العمليات في المؤسسات العامة وإصلاح نظام التقاعد.
ولفت تقرير الصندوق إلى الحاجة إلى تنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء وتحسين الأداء التشغيلي والاستدامة المالية لمؤسسة الكهرباء. وأشار إلى أن استعادة ثقة الرأي العام تستلزم اتخاذ خطوات لتعزيز الحوكمة، ووضع معايير وممارسات لمكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وقال صندوق النقد الدولي إن لبنان يواجه أزمة مصرفية ونقدية سيادية غير مسبوقة لا تزال مستمرة لأكثر من ثلاث سنوات، موضحا أنه منذ بداية الأزمة، شهد الاقتصاد انكماشا ناهز 40% ، وفقدت الليرة اللبنانية 98% من قيمتها، وسجل التضخم معدلات غير مسبوقة، كما خسر المصرف المركزي ثلثي احتياطياته من النقد الأجنبي.
وأضاف أن الاقتصاد شهد بعضا من الاستقرار عام 2022، لكنه لا يزال يعاني من ركود حاد، مؤكدا أن عدة عوامل ساهمت في دعم الاستقرار من إلغاء التدابير المرتبطة بجائحة كوفيد، وانتعاش السياحة، وقوة التحويلات الواردة، إضافةً إلى التحسن التدريجي في معدلات التبادل التجاري في النصف الثاني من العام.
واعتبر الصندوق أن الحالة الشديدة من عدم اليقين، والقيود في القطاع المصرفي، والنقص الشديد في إنتاج الكهرباء وارتفاع أسعارها جميعها عوامل ما زالت تعيق النشاط الاقتصادي. وجاء في التقرير : "عقب التدهور الكبير في سعر الصرف خلال الربع الأول من عام 2023، ازدادت دولرة النقد وتسارعت وتيرة التضخم لتصل إلى 270% على أساس سنوي في شهر إبريل 2023. وحسب التقديرات، ارتفع عجز المالية العامة إلى 5% من إجمالي الناتج المحلي عام 2022 بسبب إنهيار الإيرادات، كما ارتفع عجز الحساب الجاري إلى حوالي 30% من إجمالي الناتج المحلي بسبب الزيادة الكبيرة في حجم الواردات، في ظل استمرار الاستثمار الأجنبي المباشر والتدفقات المالية الوافدة الأخرى على مستويات متدنية."
وقال تقرير الصندوق "تصاعدت حالة عدم اليقين المخيمة على الآفاق الاقتصادية التي ترتبط بخيارات السياسات المعتمدة من قبل السلطات. فمن شأن التنفيذ الحاسم لخطة شاملة للتعافي الاقتصادي أن يحد بشكل تدريجي وثابت من الاختلالات وأن يشكل ركيزة للسياسات للمساعدة في استعادة الثقة وتسهيل العودة إلى مسار النمو. غير أن استمرار الوضع الراهن يمثل الخطر الأكبر على الآفاق، وستظل مستويات الثقة متدنية وستزداد الدولرة النقدية للاقتصاد في حال الاستمرار في إرجاء الإصلاحات".
وأضاف "كذلك سيواصل سعر الصرف تراجعه لتظل معدلات التضخم مرتفعة. وسيتحول النشاط الاقتصادي إلى القطاعات غير الرسمية، مما سيزيد من صعوبة تحصيل إيرادات المالية العامة. وسيواصل مصرف لبنان، المثقل نتيجة الخسائر غير المعالجة وفقدان الثقة، خسارة احتياطياته الخارجية. وقد تتسارع وتيرة الهجرة الخارجية، لا سيما لأصحاب المهارات، مما سيؤدي إلى تقويض النمو مستقبلا. وسيكون الاستثمار في رأس المال المادي محدودا. ولن تتمكن المصارف من أداء دورها المهم في توفير الائتمان، وسيستمر تباطؤ النمو الحقيقي".
وتابع "وستواجه الوضعية الخارجية تقلبات حادة في ظل المساعدات المحدودة من الشركاء متعددي الأطراف والإقليميين. وسيظل الدين العام على مسار غير مستدام نظرا لأنه من المستبعد السير في إعادة الهيكلة في ظل غياب الإصلاحات، مما سيحد بدرجة كبيرة من قدرة الدولة على الاقتراض. وستكون قدرة الدولة محدودة على توفير الخدمات، حيث أن تدني الإيرادات وغياب التمويل سيزيد من الضغط على النفقات (الاستثمار الرأسمالي، التوظيف والأجور) . وستزداد الأوضاع الاجتماعية هشاشة بمرور الوقت".