الاستحقاق الرئاسي اللبناني يوم ٣١ أكتوبر الماضي بين ماضٍ من التناقضات وحاضرٍ من الالتباسات وآتٍ من الترقبات: هذا ببساطة توصيف للحالة اللبنانية الآنية.
توافقية الفرقاء السياسيين على الجنرال ميشيل عون، يفتح شهية أي باحث بل وأي مهتم بالشأنين العربي واللبناني لتبيان الأمر واستيضاح الموقف. مبعث ذلك هو الماضي المثير للجدل للجنرال الثمانيني هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تغير قواعد اللعبة على المسرحين الإقليمي واللبناني، بظهور لاعبين دوليين جدد وبانهماك سوريا الأسد في حربها الطائفية ومد يد العون لها من إيران وحزب الله.
شسوع فرق بين أن تطأ أقدام الجنرال عتبات قصر بعبدا على رأس دبابة في ٢٢ سبتمبر من العام ١٩٨٨ مترأسا حكومة عسكرية ومرتديا بزة عسكرية ومعتدا بسلاحه، وبين دخوله القصر في نهاية أكتوبر ٢٠١٦ متسنما حكومة مدنية وملتحفا ببزة مدنية، بصناديق اقتراع وبعملية انتخابية حتى ولو كانت تلك العملية نتاج لمواءمات سياسية وصفقات طائفية.
يفْرُق الدخول الأول للجنرال عن الثاني ثمانية وعشرون عاما، قضى منها خمسة عشر عاما في المنفى الفرنسي، نتيجة وحاصل تحصيل الدخول الأول، فإلى أي مستقبل يحمله الدخول الثاني للجنرال؟ وإلى أي مستقبل يدفع هو لبنان إليه؟
شغور قصر بعبدا طيلة الثلاثين شهرا الماضية، وهي أطول مدة في تاريخ لبنان بدون رئيس، برأيي كان مقصودا ومرغوبا ومرادا ومدارا من قبل الجنرال. ولا أستبعد حدوث صفقات للجنرال مع الفرقاء السياسيين، أعداء الأمس حلفاء اليوم، سيما حزب الله، إذ يجمعهما رفضهما لاتفاق الطائف، وسعي حثيث من حزب الله للانتقال من ثلاثية السلطة إلى المناصفة، بين الشيعة والموارنة، خدمه لمشروعه الطائفي وصوالحه الخاصة.
يعزى تكريس النظام الطائفي للميثاق الوطني عام ١٩٤٣، من مارونية رئيس الجمهورية وسنية رئيس الوزراء وشيعية رئيس مجلس النواب، أتت الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) على الأخضر واليابس وأودت بحياة ما يفوق ١٥٠ ألف لبناني غير آلاف المتغيبين، إلا أنها لم تمس النظام الطائفي، من قريب أو بعيد. لم ينحو اتفاق الطائف والمعروف باسم وثيقة الوفاق الوطني، منحى مغايرا للميثاق الوطني، بل أتى تأكيدا له.
سعى كثير من السياسيين اللبنانيين إلى القضاء على الطائفية السياسية، لعل أبرزهم هو رياض الصلح، والذي سعى جاهدا إلى لبننة المسلمين وتعريب المسيحيين، ونلحظ في سياسة رفيق الحريري نفس التوجه.
هل عاد الجنرال بالبزة المدنية بكل ما تحمله الكلمة من معان، من خضوع لقواعد اللعبة الديمقراطية والاصطفاف لصالح لبنان والتخلي عن العنجهية العسكرية، أم أن تلك البزة المدنية ستستر وتتستر على جنرالية الرجل؟ ومواقفه السابقة؟
المتأمل في تاريخ الرجل، يحار حيرة بالغة، فالرجل كان من معارضي اتفاق الطائف، والذي أنهى الحرب الأهلية، بل عمل على إفشاله وتفشيل تطبيقه، ذلك الرجل هو اليوم الذي يقبل بهذا الاتفاق ويدخل قصر بعبدا استنادا لشرعيته.
لربما كان تسنمه قيادة الجيش عام ١٩٨٤ كأصغر قائد للجيش دافعا إلى نهم أكبر وتطلع جامح للسلطة. عقب اتفاق الطائف في ٣٠ سبتمبر ١٩٨٩ ثم شرعنته بتاريخ ٢٢ أكتوبر ١٩٨٩تولى رينيه معوض رئاسة البلاد، لكنه لم يمكث سوى ١٧ يوما في منصبه ثم أغتيل ليخلفه إلياس الهراوي في ٢٤ نوفمبر ١٩٨٩ حتى مع انتخاب رئيس للجمهورية رفض الجنرال الثمانيني التنازل عن حكومته العسكرية وتمكين الرئيس المنتخب من ممارسة مهامه، إلى أن اضطرته سوريا على مغادرة قصر بعبدا عام ١٩٩٠، نازحا إلى السفارة الفرنسية ثم إلى المنفى الفرنسي.
بعدما عثر الفرقاء السياسيين في طريق تسمية رئيس جديد للبلاد، وذلك عقب الولاية الثانية للرئيس الأسبق أمين الجميل، ومع استمرار أتون الحرب الأهلية، شكل الجنرال ميشيل عون حكومة عسكرية، قائمة بأعمال رئيس الجمهورية، موازية لحكومة سليم الحص، الحكومة المدنية القائمة بأعمال رئيس الجمهورية، في سابقة هي الأولى من نوعها في ازدواج للسلطة التنفيذية القائمة بأعمال رئيس الجمهورية.
لن ينسى التاريخ موقف الرجل من ميثاق الطائف وكيف أنه ما ادخر وسعا لإفشاله ثم لتفشيل تطبيقه.
ثمة سمة تغلب على العقلية العسكرية وتتحكم فيها ألا وهي ضرورة الفوز وحتميته، بأي ثمن كان، وهذا يتعارض مع مبنى الديمقراطية وأبجديتها، ذلك أن الديمقراطية هي فن الممكن، ربما تخسر طواعية اليوم لتظفر بالفوز غدا، ولربما تضطرك الظروف للعمل وصيفا اليوم لتتوج ملكا غدا.
ذلك الدرس لم يعه الجنرال في نهاية الحرب الأهلية أواخر عام ١٩٨٩، فيعتبر المسؤول عن إطالة أمد تلك الحرب الضروس، وأيضا ما استجلبه لنفسه من عزلة دولية، ألجأته إلى الفرار إلى السفارة الفرنسية ومن بعدها إلى المنفى بفرنسا.
تزاملت أثناء دراستي للدكتوراه بفرنسا مع لبناني ماروني، والذي أصبح صديق لي، وكان وقتئذ عودة الجنرال من المنفى، ودارت حلقات النقاش واستطالت مدتها واتسعت رقعة حضورها، وسمعت من مقربين من الجنرال في المنفى وفي الوطن، ما يزيد الأمر غموضا والوضع حيرة، وبما أن للجالية اللبنانية حضور ملموس بفرنسا، هذا مكنني من الوقوف على حقيقة كثير من الأمور وأشبعت فضولي للمعرفة وفهمي للواقع اللبناني ومفرداته السياسية.
العودة الظافرة للجنرال عام ٢٠٠٥ كانت عقب اغتيال مهندس اتفاق الطائف والعدو اللدود والخصم التاريخي للجنرال، رفيق الحريري، تكشف لنا مؤشرين، الأول هو ارتياح الجنرال لخلو الساحة من شخص بقيمة وقامة وحجم الحريري والثاني هو تقوية سلطانه وبسط نفوذه على الطائفة المارونية، الأمر الذي من خلاله فرض نفسه كلاعب أساسي على المسرح السياسي اللبناني سيما بعدما شكل في عام ١٩٩٦ التيار الوطني الحر.
تسلسلية المفاجآت بعد عودته من المنفى توحي بأنه قد وعى الدرس جيدا ، ففي عام ٢٠٠٦ وقع اتفاق تفاهم مع حزب الله وتكررت زياراته لسوريا الأسد وشارك في اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨ والذي تمخض عن تشكيل حكومة ائتلاف وطني، حظى فيها الجنرال بخمسة مقاعد، ثم تتوالى المفاجآت بالانتخابات التشريعية لعام ٢٠٠٩ ليدخل الجنرال إلى البرلمان ويترأس أكبر كتلة مسيحية فيه بحصوله على ٢١ مقعدا.
تسمية الجنرال لسعد الحريري رئيسا للحكومة، بعيد حلفه لليمين، لا يمكن فصلها وفهمها بمعزل عن تسمية الجنرال نفسها، واللفظة مقصودة لذاتها، فالانتخابات اللبنانية كما يحلو للمحللين اللبنانيين تسميتها بالديمقراطية التوافقية.
الغياب القسري والتغيب الاضطراري لسوريا الأسد وكذلك انغماس حزب الله في حرب طائفية خارج الحدود، سيكون له جليل الأثر في المعادلة اللبنانية الحالية. غير خاف على أحد مشروع سورنة لبنان، قبل انسحاب الجيش السوري من لبنان وبعد الانسحاب، لكن بالأقل مشروع السورنة مؤجل الآن. لكن هل يضطلع حزب الله تبرعا بالمهمة؟ معلوم أن النظام السوري كشف عن توجه طائفي مقيت، ولحزب الله صوالح عدة في مؤازرة ودعم نظام الأسد، منها ضمان خط الإمداد، الولاء المللي وولاية الفقيه والعمل على تحجيم النفوذ السني في بلاد الشام وغرب العراق.
الطموح غير المسقوف للجنرال أوصله إذن ثانية إلى قصر بعبدا، واقع لابد للّبنانيين من التكيف معه.
تزخر أجندة الجنرال الثمانيني بملفات ملتهبة، يقبع على قمتها علاقته بحزب الله وموقفه من سلاحه وتدخله في سوريا، علاقته بتيار المستقبل، أي بالحكومة، ثم موقفه من اتفاق الطائف وعلاقته بسمير جعجع...
بين ماضٍ متناقض وحاضرٍ ملتبس ومستقبلٍ غامض، بين بزة عسكرية وأخرى مدنية، بين مغفول عنه ومأمول فيه، يمضي قطار الدولة اللبنانية وله نأمل أمن الطريق وسلامة الوصول.