مائة عام مضت على قيام أول جمهورية ديمقراطية فى الشرق الإسلامي، مما أكسبها قيمة تاريخية كبيرة للغاية، حيث إن تشكيل جمهورية ديمقراطية فى هذه المنطقة لأول مرة، يُعد انجازًا للشعب الأذري. إذ تُعد الأولى من نوعها فى تاريخ العالم الإسلامى بتطبيقها خبرة النموذج الأوربى للدول القومية، حيث تم بناؤها فى إطار النموذج البرلمانى الكلاسيكى للجمهورية.
يجب الإشارة إلى الدور الذى لعبته الشخصيات البارزة للقادة داخل أذربيجان، حيث كان لهم دور مهم فى هذه التجربة الرائدة ونقشت أسماؤهم بأحرف من نور فى ذاكرة الشعب الأذربيجانى إلى الأبد، فخلال فترة الاستقلال الأولى للدولة (1918-1920)، كان هناك محمد أمين رسول زادة مؤسس أذربيجان الديمقراطية وفتح على خان خويسكى أول رئيس لحكومة أذربيجان الشعبية وعلى مردان بك توبجوباشوف رئيس البرلمان، ثم بعد ذلك كان الاستقلال الثانى لأذربيجان فى عام 1991؛ ليظهر دور حيدر علييف القائد السياسى المحنك الذى أخرج أذربيجان من مرحلة الصعاب والتحديات فى مطلع التسعينيات، لتخطو نحو صوب مستقبل مزدهر وجاء بعده فخامة الرئيس إلهام علييف الذى كان خير خلف لخير سلف من قادة تاريخيين قادوا أوطانهم فى لحظات مصيرية إلى التقدم والتطور.
وغنى عن القول، إن تأسيس هذه الجمهورية المستقلة لم يكن يسيرًا أو سهلاً، وإنما بُذلت فى سبيله الدماء وقُدمت من أجله التضحيات، وهو ما يتطلب إلقاء الضوء على جانب من هذا التاريخ، ليتذكر الجميع أن ما جرى للحصول على هذا الاستقلال هو ذاته ما تكرر عند حدوث الاستقلال الثانى عام 1991، وما أشبه ذلك اليوم بتلك البارحة.
واليوم، تحتفل جمهورية أذربيجان فى 28 مايو بعيد استقلالها، حيث يتسم يوم 28 مايو بأهمية خاصة بالنسبة لشعب أذربيجان، ففى ذلك اليوم تم إعلان جمهورية أذربيجان الديمقراطية بعد انهيار الإمبراطورية الروسية القيصرية، واستمرت أول جمهورية أذربيجانية مستقلة لمدة 23 شهرًا فقط (ما بين 28 مايو 1918 -28 إبريل 1920) وتم إعلان أذربيجان كأول جمهورية برلمانية وديمقراطية ملتزمة بمبادئ سيادة القانون ونظام التعددية الحزبية وعلاقات حسن الجوار والتسامح والحقوق المتساوية لكافة القوميات التى تعيش على أرضها . وقد جاء فى نص بيان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطنى ما يلي:
جمهورية أذربيجان الشعبية الوريث القانونى لأراضى أذربيجان الملحقة بالإمبراطورية الروسية وفق معاهدة "جوليستان" عام 1813، ومعاهدة "تركمنتشاي" عام 1828.ابتداء من اليوم تُعتبر أذربيجان التى تشمل جنوب القوقاز الشرقى دولة مستقلة قانونية والشعب الأذربيجانى مصدر السلطة.تعتزم جمهورية أذربيجان الديمقراطية إقامة علاقات حسن الجوار مع جميع أعضاء المجتمع الدولي، ولا سيما مع الدول المجاورة.تمنح جمهورية أذربيجان الشعبية مواطنيها الحقوق المدنية والسياسية بغض النظر عن الجنسية أو الدين أو الوضع الاجتماعي.تمنح جمهورية أذربيجان الشعبية لجميع الشعوب القاطنة فيها الفرص الواسعة للتنمية الحرة.يترأس المجلس الوطنى والحكومة المؤقتة المسؤولة أمام المجلس الوطنى جمهورية أذربيجان حتى عقد اجتماع الجمعية التأسيسية.
وكان إعلان الاستقلال وثيقة مهمة بالنسبة لأذربيجان، فبموجب هذه الوثيقة نجحت الدولة فى إعداد دستورها المبنى على الحقوق المتساوية، وتم فى ضوئه، إصدار القانون الخاص بتأسيس البرلمان الأذربيجانى البالغ عدد اعضاءه 120 عضوًا ممثلين عن الأحزاب المتعددة (حزب مساواة، اتحاد، أحرار، المستقلين، الاشتراكيون، الأرمن، الطاشناك، وغيرها) والتى تشمل جميع الكيانات السياسية والقوميات والأعراق الرئيسة، ويعد تمثيل جميع التيارات السياسية والقوميات والأعراق فى البرلمان الوطني، شاهد حى على التزام أذربيجان بالتعددية الحزبية والنظام البرلمانى متعدد القوميات.
وبدأ عمل البرلمان فى 7 ديسمبر 1918. والجدير بالذكر أنه تم عقد 145 جلسة فى البرلمان الأذربيجانى أثناء فترة نشاطه خلال 17 شهرًا، فكانت أول جلسة فى 7 ديسمبر 1918، وآخر جلسة كانت فى 27 إبريل 1920. حيث تم نقاش أكثر من 270 مشروع القانون، وتم التصديق على نحو 230 منها. وكانت تعمل 11 لجنة فى البرلمان. منها: اللجنة المالية-الميزانية؛ لجنة مبادرة القوانين؛ اللجنة المركزية؛ اللجنة العسكرية؛ اللجنة الزراعية؛ لجنة المراقبة وغيرها.
رغم الفترة المحدودة من عمر الجمهورية، إلا أنها نجحت فى تحقيق عديد النجاحات والإنجازات كان من أبرزها ما يأتى :
فى السادس والعشرين من يونيو1918 ، تم تأسيس جيش وطنى أذربيجاني، حيث يعود الفضل فى إنشائه إلى الوطنيين الأذربيجانيين أمثال: "سمد بك مهمانداروف، على آغا شيخلنسكي، حسين خان ناختشوانسكي، إبراهيم آغا أوسوبوف، كاظم قاجار، جواد بك شيخلنسكي، حبيب بك سليموف وغيرهم"، حيث لعبوا دورًا كبيرًا فى تشكيل قوات الدفاع الوطني، وإعداد الكوادر المتخصصة وتدريبهم، وإنشاء أسس عسكرية فكان عدد الأفراد العسكرية يصل إلى 40 ألفًا، وبقيادة هؤلاء القادة تمكن الجيش الوطنى من تطهير مدينة باكو والمدن الأخرى من احتلال العصابات المسلحة للطاشناك الأرمن. حيث جاء فى "بيان الاستقلال" أن أذربيجان ينبغى لها أن تنشئ قوات مسلحة خاصة بها من أجل الدفاع عن نفسها من تدخلات خارجية.
وتقدمت الحكومة بإنشاء جيش قوامه 25 ألف جندى فى البداية، وتم تأسيس وزارة الحرب الأذربيجانية بتوظيف السيد خوسو بيك سلطانوف كأول وزير دفاع أذربيجانى فى الأول من أغسطس 1918، واستطاع الجيش الوطنى خلال مدة قصيرة بالتعاون مع الجيش الإسلامى القوقازى لدولة العثمانية العالية تحرير باكو، ولكن بعد غزو روسيا السوفييتية لأذربيجان عام 1920م ألغيت وزارة الحرب مع إعدام 15 جنرالا للجيش الوطنى رميًا بالرصاص من قبل البلاشفة.
فى السابع والعشرين من شهر يونيو عام 1918، أصدرت حكومة جمهورية أذربيجان الديمقراطية قرارًا باتخاذ اللغة الأذربيجانية لغة الدولة. فى الثانى من شهر يوليو عام 1918 أصدر رئيس مجلس وزراء أذربيجان الديمقراطية ووزير الداخلية السيد فتح على خان خويسكى قرارا بإنشاء أول قسم شرطة فى البلاد، وبهذا القرار تم وضع الأسس لأجهزة الشرطة الأذربيجانية.فى التاسع من شهر نوفمبر عام 1918، تبنت حكومة جمهورية أذربيجان الديمقراطية أول قرار لها باتخاذ علم ذى ثلاثة ألوان "الأزرق والأحمر والأخضر مع الهلال والنجمة الثمانية الأطراف"، والذى يرمز إلى الحداثة والديمقراطية، ومبادئ الهوية الوطنية، والإسلام، باعتباره علمًا لأذربيجان المستقلة، وعقب انهيار الجمهورية فى 28 أبريل عام 1920 وقيام النظام السوفيتى تم إلغاء العلم، غير أنه أعيد الاعتراف به كعلم لجمهورية أذربيجان فى 17 نوفمبر عام 1991.
تم إنشاء العديد من المعاهد والجامعات بما فيها المعاهد الخاصة بالفتيات، فتأسست جامعة باكو الحكومية بقرار من البرلمان بتاريخ 1 سبتمبر لعام 1919، ولتنمية مجال العمل والتربية وتدريب الكوادر الوطنيين فى البلاد، قررت الحكومة الأذربيجانية إرسال مائة طالب إلى دول مختلفة (منهم 45 طالب لفرنسا، 23 طالب لإيطاليا، 10 طلاب لبريطانيا، 9 طلاب لتركيا، و13 طالب لروسيا). فى عام 1919 وصلت عدد الجرائد والمجلات الصادرة فى أذربيجان إلى 80 جريدة ومجلة، منها 39 جريدة كانت تنشر باللغة الأذربيجانية. وكذلك توسعت شبكة المكتبات فى أذربيجان خلال عام 1920 حيث وصلت عددها إلى إحدى عشرة مكتبة وكانت تشمل 95 ألف نسخة كتاب.
فيما يتعلق بالشؤون الاجتماعية والدينية، اقترح محمد أمين رسول زاده انتقال إدارة مسلمى القوقاز والتى كان مركزها فى مدينة تيبيلسى عاصمة جورجيا خلال الفترة (1823-1917) إلى مدينة باكو وأن يتم تأسيس المشيخة من جديد. وبقرار موسى بك رفييف وزير الضمان الاجتماعى والمعتقدات الدينية، أصبح الامام "آغا على زاده" شيخ الإسلام، ومصطفى أفندى زاده مفتيًا. وكان شيخ الإسلام آغا على زاده يرفض الطائفية، ويحافظ على التعددية بين أصحاب الأديان والمذاهب المختلفة الموجودة فى أذربيجان.تبنت الدولة سياسة خارجية ناجحة سمحت لها بالتواصل مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، حيث أقامت علاقات دبلوماسية مع كل من جورجيا وأرمينيا وتركيا وإيران وأوكرانيا وليتوانيا وبولندا وفنلندا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإيطاليا والسويد وسويسرا وبلجيكا وندرلاند واليونان والدانمارك.
كانت الفترة من 1918-1920 التى مضت خلالها أذربيجان فى تطورها باعتبارها جمهورية برلمانية مستقلة، قد أنهت عملية الارتقاء الزمنى من كيان محل التنافس الإقليمى بين روسيا وتركيا وإيران، إلى وضعية الكيان المستقل فى العلاقات الدولية.
ومع عقد مؤتمر "السلام" فى باريس فى 11 يناير 1920، تم اعتراف أوروبا باستقلال أذربيجان ضمن حدود دولتها المعلنة عن الاستقلال. وقد اعتمد القرار المذكور ممثلو انجلترا وفرنسا وإيطاليا. ولاحقا انضمت إليه اليابان، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رفضها للقرار .
ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الاعتراف الدولى باستقلال أذربيجان تزامنت مع سعى القوات الروسية من الاقتراب من الحدود الشمالية لأذربيجان ضمن إطار سياستها "روسيا واحدة لا تتجزأ".
وقامت الوحدات التابعة للجيش الأحمر الروسى وكان قوامها 72 ألف جندى بالتجمع على ضفاف نهر سامور، فى الوقت الذى بدأ فيه القتال من جانب العصابات الأرمينية فى إقليم قراباغ، بما اضطرت معه الحكومة الأذربيجانية لتحريك جيشها فى اتجاه الإقليم لمواجهة الاضطرابات. إلا أنه سرعان ما عبر الجيش الروسى النهر ليلا فى 26 و27 أبريل 1920 ليتقدم جنوبًا فى الأراضى الأذربيجانية، بما اضطر معه البرلمان الأذربيجانى إلى الاستقالة ليلة 27 أبريل بعدما أدرك المخطط الروسى بالتواطؤ مع الأرمن، ليدخل السوفييت باكو وتنتهى جمهورية أذربيجان الديمقراطية فى 28 أبريل 1920 أى بعدما استمرت 23 شهرا.
وفى هذا الخصوص، يجدر بنا الاشارة إلى واحدة من القصص الوطنية التى تؤكد على حمية الشعب الأذرى وقياداته فى الدفاع عن الوطن واستقلاله، إذ يروى لنا تاريخ استقلال أذربيجان أن حوارًا جرى بين كل من جوزيف ستالين رئيس مجلس الوزراء للاتحاد السوفيتى ومحمد أمين رسول زاده مؤسس جمهورية أذربيجان الديمقراطية. يسأل ستالين: ماذا قدمت حكومتكم التى عاشت وعمرها سنة ونصف للشعب؟ أجاب محمد أمين رسول زاده: لم نقدم كثيرًا، ولكن فهّمنا الناس ما هو الاستقلال وتذوقنا الاستقلال الوطنى مهما كانت المدة قليلة. فنحن نلنا استقلالنا بعد العبودية مائة سنة لروسيا القيصرية وعرّفَـنا من نحن. وقال كلمته الشهيرة "العلم الذى علا يومًا، لن ينزل أبدًا"، وأصبح هذا شعار الاستقلال فيما بعد. وكما قال: "إن النظام الشيوعى لابد أن ينهار". وهذا ما حدث عام 1991 الذى شهد انهيار النظام الشيوعى والذى استمر 70 عامًا.
ولكن، رغم كل ذلك لم تضعف إرادة الشعب الأذربيجانى ورغبته فى الحرية والاستقلال بل عملت هذه الأحداث على تكاتف وتعاضد كافة فئات المجتمع الأذربيجانى فى مقاومة المحتل ودفعت عملية التحرر الوطنى بقوة إلى الأمام، إذ توج هذا الكفاح بنجاح الشعب الأذرى بالتحرر من الاحتلال السوفيتى الذى دام واحد وسبعون عامًا، لتنهض أذربيجان من جديد دولة مستقلة لها سيادتها على كامل أرضها وترابها فى الثامن عشر من أكتوبر 1991.
ومما زاد من وتيرة هذه الصعوبات وجعلها أكثر تعقيدًا ما جرى من جانب أرمينيا بدعم الجيش السوفيتي، إذ تلاقت مصالحهما، ففى الوقت الذى أراد فيه الجيش السوفيتى أن ينتقم من الشعب الأذرى نظرًا لسعيه للحصول على الاستقلال والحرية، كانت ثمة مطامع أرمينية مستمرة فى الأراضى الآذرية، بهدف بناء "أرمينيا الكبرى" أى إزالة أذربيجان من على خارطة القوقاز السياسية. فارتكبت المجازر والمذابح بحق الشعب الاذرى، وكان من اشرسها مذبحة خوجالى مذبحة التى ارتكبها الأرمن فى فبراير عام 1992، والتى راح ضحيتها فقتلت 613 مدنيًا من بينهم 106 نساء، 36 طفلاً و70 من كبار السن.
ومع تولى الزعيم حيدر علييف قيادة أذربيجان عام 1993 تمكن من وقف إطلاق النار بين طرفى النزاع، وترسيخ مؤسسات الدولة وتعزيز العلاقات الدولية الأكثر إلحاحًا، وتبنى استراتيجية شاملة فى مجال الطاقة وإرساء أسس التنمية المستدامة طويلة الأجل للبلاد. وهكذا حلت حقبة جديدة فى حياة جمهورية أذربيجان المستقلة.
وفى الخامس عشر من أكتوبر 2003، كانت أذربيجان على موعد مع مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، على الرغم أنها ليست مرحلة تأسيسية كما كان عليه الحال مع بداية الاستقلال فى تسعينيات القرن المنصرم، إلا أنها مرحلة لا تقل أهمية عنها، إذ واجهت الدولة تحدى كبير تمثل فى كيفية الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات وطنية، واستكمال خارطة بناء المستقبل للأجيال القادمة.
وفى هذه الفترة، بزغ نجم الرئيس إلهام علييف كونه أكثر الخلفاء كفاءة فى حيث القدرة على مواصلة النهج السياسى الذى وضع بنيانه الزعيم حيدر علييف. وقد سار القائد إلهام علييف على نهج الزعيم حيدر علييف داخليًا، إذ استمر فى العمل على استكمال مسيرة التقدم والازدهار لتحقيق طموحات وآمال شعبه، مع السعى نحو إقرار الحل السلمى لإنهاء الاحتلال الأرمينى لإقليم قراباغ والأقاليم المجاورة له، بهدف استعادة وحدة الأراضى الأذربيجانية وسيادتها الكاملة. وعلى المستوى الخارجى، ظلت السياسة الخارجية الآذرية سياسة فعالة ونشطة لجعل أذربيجان قائدًا إقليميًا وشريكًا دوليًا قويًا موثوقًا به.
وبفضل هذه الرؤية بعيدة النظر للقائد إلهام علييف والخبرات المتراكمة لديه، استطاعت أذربيجان خلال السنوات الماضية (2003- 2018) تحقيق إنجازات كبيرة فى مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، مكّنت من تعزيز نظامها السياسى وتطوير اقتصادها الوطني.