أعلنت السلطات الفرنسية، عودة الهدوء "الحذر" إلى المناطق التى شهدت أعمال الشغب بشارع الشانزليزيه فى قلب العاصمة باريس.
وذكرت قناة (الحرة) الأمريكية اليوم الأحد - التى أوردت النبأ - أن "الاحتقان الشعبي" بلغ ذروته أمس فى باريس، حيث اشتبك المتظاهرون مع رجال الأمن وأضرموا النيران فى المبانى والسيارات قرب (قوس النصر) الشهير وجادة الشانزليزيه، قبل أن تمتد المظاهرات والاشتباكات إلى مناطق أخرى.
وتسببت الاضطرابات فى إغلاق 19 محطة لقطارات الأنفاق ومتاجر رئيسية، فيما أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أنه لن يرضى "أبدا بالعنف" الذى اندلع فى باريس على هامش تحرك احتجاجى لحركة "السترات الصفراء"، لأنه "لا يمت بصلة إلى التعبير عن غضب مشروع".
وقال ماكرون - فى ختام قمة مجموعة العشرين التى عقدت فى العاصمة الأرجنتينية (بوينس آيرس) - إن "أى قضية لا تبرر مهاجمة قوات الأمن ونهب محال تجارية وتهديد مارة أو صحافيين وتشويه قوس النصر".
وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أن عدد المشاركين فى الاحتجاجات بلغ 75 ألفا فى مختلف أنحاء فرنسا.
يزداد المشهد الفرنسى تفاقما يوما تلو الآخر إثر تصاعد احتجاجات حركة "السترات الصفراء" التى اجتاحت أغلب المدن الفرنسية خلال الأسابيع الماضية للتنديد بزيادة أسعار الوقود وغلاء المعيشة، ونظمت الحركة أمس ثالث مظاهرة لها فى مختلف أنحاء البلاد، وتصاعدت الاشتباكات بين المتظاهرين وشرطة مكافحة الشغب حيث اعتقلت الشرطة نحو 205 أشخاص بسبب أعمال التخريب، فيما أصيب نحو 80 شخصا بينهم 14 من عناصر الشرطة، كما تم إغلاق 19 محطة على الأقل لمترو الأنفاق وسط باريس فى ظل تواصل الاشتباكات العنيفة فى مختلف أنحاء العاصمة.
وتحول شارع الشانزليزيه إلى ساحة قتال بعد اشتباك أصحاب "السترات الصفراء" مع الشرطة التى استخدمت الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية وخراطيم المياه فى مواجهة المتظاهرين، كما اندلعت النيران فى مبنى بشارع رئيسى قريب من "قوس النصر" بباريس وسط أعمال عنف وتخريب للممتلكات الخاصة والعامة.
وأعلنت الداخلية الفرنسية أن نحو 75 ألف شخص شاركوا فى مظاهرات أمس، وهو عدد أقل من عدد المشاركين فى أول مظاهرة للحركة يوم 17 نوفمبر الماضي، والبالغ عددهم 282 ألف شخص، كما أنه يقل عن المشاركين فى مظاهرات 24 نوفمبر وعددهم 106 آلاف شخص.
وردا على تصاعد الاحتجاجات التى شهدتها البلاد، أدان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ما حدث فى باريس، مؤكدا أنه "لا علاقة له بالتعبير السلمى للغضب المشروع" وأن "مرتكبى هذا العنف لا يريدون التغيير، بل يريدون الفوضى"، مشيرا إلى أنه سيعقد "اجتماعاً مشتركاً بين الوزارات مع الخدمات ذات الصلة" فور عودته من قمة العشرين فى الأرجنتين.
وبدوره، أكد رئيس الوزراء الفرنسى إدوارد فيليب أن حكومته متمسكة بالحوار مع محتجى "السترات الصفراء"، مشددا على ضرورة احترام القانون، وكان معظم الممثلين عن السترات الصفراء الذين دعاهم فيليب الجمعة الماضية إلى قصر ماتينيون للحوار لم يلبوا الدعوة، وحضر اثنان فقط من أصل ثمانية ولم يسفر عن ذلك أى نتائج إيجابية خاصة أن أصحاب السترات الصفراء لا يعترفون بهؤلاء كممثلين لهم أو متحدثين باسمهم.
ومع تصاعد حدة الاشتباكات، تزايدت مطالب المحتجين فلم تعد تقتصر على خفض أسعار الوقود، بل وصلت إلى رفض السياسات الاقتصادية التى يتبناها الرئيس ماكرون والتى تضر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، وطالب المحتجون بخفض جميع الضرائب، وحل الجمعية الوطنية.
ووفقا للمراقبين، فإن احتجاجات "السترات الصفراء" تختلف عن سابقاتها من المظاهرات والاعتصامات التى شهدتها البلاد فهى تشكل تهديدا حقيقيا للرئيس ماكرون قد يكون الأخطر منذ وصوله إلى الحكم فى مايو 2017، ويرجع ذلك للعديد من العوامل أبرزها أن هذه المظاهرات لم تكن نقابية عمالية كما هو معتاد فى فرنسا، بل جاءت شعبية بدعوات من مختلف أطياف الشعب، تعبيرا عن حجم الاستياء والإحباط الذى أصاب المواطنين من السياسات الاقتصادية وانخفاض مستوى المعيشة.
إضافة لذلك، ينتمى أعضاء الحركة إلى خلفيات اجتماعية وسياسية متنوعة، كما أن الطريقة التى تجمعت بها حركتهم كانت بدون قيادة حيث يتم تنظيمها عبر وسائل التواصل الاجتماعى، لذلك حظيت هذه الحركة بتأييد واسع من الرأى العام حيث أظهرت استطلاعات الرأى أن 70% من الفرنسيين يؤيدون هذه الاحتجاجات حتى مع عدم انضمامهم لها فى الشارع.
كما حظيت الحركة بدعم أحزاب من اليمين مثل حزب الجمهوريين، واليمين المتطرف مثل التجمع الوطني، فضلا عن حزب "فرنسا الأبية" اليسارى بقيادة النائب "جان لوك ميلينشون".
فى مقابل ذلك لا يبدو أن الرئيس ماكرون وحكومته يمتلكون رؤية واضحة للتعامل مع هذه الأزمة، فالرئيس الفرنسى يؤكد دوما عدم تراجعه على المضى قدما فى تنفيذ خارطة الإصلاح التى اعتمدها منذ وصوله للإليزيه، وهو ما يزيد من غضب المتظاهرين ويؤدى إلى تفاقم حدة الاحتجاجات، كما أن التأييد الشعبى الواسع الذى تحظى به الحركة يضع الحكومة أمام مأزق صعب فى كيفية التعامل معا فهى تتأرجح بين استخدام وسائل القمع وبين الدخول فى مفاوضات مع ممثلين لهذه الحركة، ولا يبدو أن أيا من الأثنين يأتى بالنتائج المرجوة.
والأخطر من ذلك أن الحركة تفتقد إلى وجود إطار سياسى وبرنامج عمل واضح المعالم سواء من حيث المطالب أو الأهداف، كما أنها تفتقد إلى وجود قيادة شرعية تمثلها وتتحدث باسمها وهو مايصعب من عملية التفاوض معها.
فى ضوء ماسبق يبدو أن حركة "السترات الصفراء" ستشكل اختبارا عسيرا أمام قدرة ماكرون على إدارة الأزمات الاجتماعية، وإذا كان قد نجح حتى الآن فى تنفيذ برنامجه الإصلاحى على الرغم من الاحتجاجات والاعتصامات التى شهدتها البلاد، إلا أنه من المرجح أن تشكل حركة "السترات الصفراء" حجر عثرة أمام مسيرته الإصلاحية، فإذا لم يتمكَّن ماكرون من إيجاد مخرج سياسى للأزمة يراعى حقوق الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة فإنه لن يتمكن من استكمال خططه الإصلاحية وستستمر شعبيته فى التراجع إلى أدنى مستوياتها، وهو ما سيؤثر بدوره على الانتخابات الأوروبية التى سيخوضها حزبه فى مايو القادم، كما ستضعف من فرص ترشحه لولاية رئاسية جديدة فى انتخابات 2022.